فقدت فرنسا الكثير من الحضور والامتيازات التي كانت تتمتع بها في الجزائر، ولم تعد المسألة تتعلق بالسياسة والدبلوماسية فحسب، لأنها كانت دوما محل صدامات بسبب الماضي الاستعماري، بل وصل الأمر إلى الامتيازات الاقتصادية وهي الأهم بالنسبة لباريس، والتي كثيرا ما حولت الجزائر إلى بازار لسلعها، وطوق نجاة من الإفلاس لشركاتها، كما حصل مع مؤسسة “ألستوم”.
هذا المعطى ليس قراءة متشائمة لواقع العلاقات الجزائرية الفرنسية، وإنما حقيقة معيشة، أصبح يعبر عنها الفرنسيون ويتعاطون معها بشكل علني، كما جاء في تغريدة للصحفي الفرنسي الشهير، جورج مالبرينو، عبرت بصدق عما تعيشه العلاقات بين الجزائر وباريس على الصعيد الاقتصادي.
وكتب مالبرينو في التغريدة: “خلال زيارة وفد حركة المؤسسات الفرنسية (ميداف) بقيادة رئيسها جيوفري رو دو بيزيو، نهاية شهر ماي المنصرم، تم استقبالهم في الجزائر ببرودة، وذلك استنادا إلى مصدرين فرنسيين”، كما قال.
وتحدث الصحفي الفرنسي عن فتور لافت في العلاقات الاقتصادية بين البلدين: “هناك إشارات جديدة على وجودة برودة في العلاقات بين الجزائر وباريس، في الوقت الذي تشهد المصالح الاقتصادية الفرنسية تراجعا مقارنة بتنامي الدور الإيطالي خاصة”، وهو معطى أكدته نتائج الزيارة المتبادلة بين مسؤولي البلدين، والتي كانت آخرها زيارة الدولة التي قادت الرئيس عبد المجيد تبون إلى روما.
ما عبر عنه الصحافي الفرنسي كان قد لاحظه مراقبون في الجزائر خلال زيارة وفد رجال الأعمال الفرنسيين، والتي لم تكن كسابقاتها بالنسبة لرجال الأعمال الفرنسيين (ميداف)، والذين كان يبسط لهم السجاد الأحمر عندما ينزلون بالجزائر، تعبيرا عن الحظوة والامتياز اللذين لطالما تمتعوا بهما في وقت سابق.
وفد حركة المؤسسات الفرنسية كان قد سجل استغرابه من الكيفية التي تم التعامل بها معه من قبل الوسائط الإعلامية خلال تواجده في الجزائر، وخاصة الصحف الناطقة بالفرنسية، التي اعتادت تخصيص مقالات وحوارات تفوق حتى حجم الحدث، فالزيارة التي دامت يومين، خلت من الضجيج الذي اعتاد مرافقتها، ومن الإجراءات البروتوكولية الخاصة التي كانوا يحظون بها إلى وقت قريب.
ووفق مصادر على علاقة بهذا الملف، فإن وفد “الميداف” تساءل لدى “الكونفدرالية الوطنية لأرباب العمل المواطنين”، عن سبب قلة الحضور الإعلامي في النشاط الذي نظمه رجال الأعمال الجزائريون والفرنسيون في فندق الأوراسي، يومي 23 و24 ماي المنصرم، عكس ما كان مألوفا.
وخلال تواجده في الجزائر، لم يستقبل وفد حركة المؤسسات الفرنسية، سوى من وزير الصناعة، أحمد زغدار، لمدة لم تتجاوز نصف الساعة فقط، في حين أن الزيارات السابقة، كان رجال الأعمال الفرنسيون يحظون بمعاملة غير طبيعية، بحيث كان يفرش لهم السجاد الأحمر ويستقبلون من قبل الصف الأول من المسؤولين في الجزائر، وكانوا يحظون بالصفقات الكبيرة والمربحة بقرارات سياسية بعيدا عن التنافسية والمنفعة المتبادلة.
زيارة وفد “الميداف للجزائر” تزامنت وعودة الرئيس تبون من زيارته إلى تركيا، وقد كان الفرنسيون يأملون في استقبال على أعلى مستوى، يضمن لهم نصيبهم من “كعكة” الصفقات الجزائرية كالعادة خوفا من أن يستأثر بها منافسوهم الأتراك والإيطاليون والصينيون.
وتعتبر شركة “ألستوم” أبرز مثال على الشركات الفرنسية التي أنقدتها صفقات الجزائر من الإفلاس، فبينما كانت مصالح وزارة المالية الفرنسية قد وضعتها على طاولة التصفية بسبب إفلاسها، تمكن الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي (2007 /2012)، من إغراقها بالصفقات في الجزائر، بداية بكهربة خطط السكك الحديدة للعاصمة وضواحيها، قبل أن تدخل على خطوط شبكات “الترامواي”، وهو ما مكنها من العودة إلى الحياة بعدما كانت على حافة الموت.
ويبدو أن النظرة تجاه الشركات الفرنسية والاستثمار الفرنسي بصفة عامة، قد تغيرت لدى مسؤولي البلاد، ويجسد هذا الحوار الشهير للرئيس تبون الذي خص به مجلة “لوبوان” الفرنسية، والذي أثنى فيه على الاستثمار التركي لكونه متحررا من الأجندات السياسية غير الاستثمار الفرنسي الذي عادة ما كان مقرونا بالابتزاز السياسي.
ويتهم الخبراء الاقتصاديون في الجزائر الاستثمار الفرنسي بالانتقائي، كونه لا يحترم القاعدة الذهبية المعروفة: “رابح ـ رابح”، فقد تركز على مدار السنوات الأخيرة في القطاعات الخدماتية الربحية، مثل البنوك والتأمين، وهو الاستثمار الذي لا يفيد الجزائر في شيء، كونه لا يساهم في نقل التكنولوجيا ومن ثم فهو لا يقدم قيمة مضافة ولا يساعد على النهوض بالاقتصاد الوطني.
وخلال العقدين الأخيرين، ظلت الامتيازات الفرنسية في الجانب الاقتصادي، مصانة ولم تتأثر بالخلافات السياسية التي كثيرا ما طالت العلاقات الثنائية بسبب الماضي الاستعماري لفرنسا، غير أنه وخلال السنوات القليلة الأخيرة، أصبحت العلاقات السياسية تلقي بظلالها على بقية العلاقات الأخرى.
الشروق