تستعيد الجزائر هذه الأيام نشوة الاحتفالات بعيد الاستقلال الـ59، بعد ثورة تحرير أجبرت الاحتلال الفرنسي على الاعتراف بحق الشعب في تقرير مصيره ونيل استقلاله في الخامس من يوليو/تموز 1962.
لكن هذا الاستقلال، وإن حقق خروجاً للاستعمار، إلا أن جملة من الملفات والقضايا ما زالت عالقة بين الجزائر وفرنسا، ولم تُسوَّ على الرغم من مرور نحو ستة عقود، وما زالت المفاوضات بشأنها تسير بشكل بطيء، وسط مماطلة فرنسية مستمرة، وضعف في الضغط الجزائري نتيجة إكراهات سياسية واقتصادية داخلية.
وأعلنت الحكومة الجزائرية، الاحد، فشل المفاوضات مع فرنسا بشأن ملف التفجيرات النووية التي نفذتها في الصحراء الجزائرية منذ 1956.
وقال وزير المجاهدين (قدماء محاربي الثورة) الطيب زيتوني، في حوار بثته وكالة الأنباء الرسمية، إن فرنسا رفضت تسليم الجزائر الخرائط الخاصة بهذه التفجيرات، والتي قد تسمح بتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة، على الرغم من المطالبات المستمرة للرئيس عبد المجيد تبون لباريس بتحمل مسؤولياتها في تنظيف مواقع التفجيرات والتكفل بالضحايا.
وأشار إلى أن السلطات الفرنسية ما زالت تصر على إبقاء ملف التجارب النووية في الصحراء الجزائرية سرية، بالرغم من المحاولات العديدة للحقوقيين وجمعيات ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الجزائر التي سعت إلى فتح الأرشيف باعتباره ملكاً للبلدين، على الأقل لتحديد مواقع ومجال التجارب وطاقاتها التفجيرية الحقيقية.
وترى الجزائر أن التفجيرات النووية في الصحراء تعد من الأدلة الدامغة على الجرائم المقترفة، إذ لا تزال إشعاعاتها تؤثر على الإنسان والبيئة، وما زال المئات من المواليد الجدد في المنطقة يولدون بتشوهات خلقية، بالإضافة إلى تصاعد أعداد مرضى السرطان.
وبرأي الحكومة الجزائرية فإن باريس ضمنت، في قانون يعرف باسم “مورغان” صدر في يوليو 2010 ويتعلق بتعويض ضحايا التفجيرات النووية، شروطاً تعجيزية تستهدف منع الجزائريين المتضررين من الحصول على أي تعويض، على الرغم من أن التجارب النووية ما زالت تسبب أمراضاً سرطانية وتشوهات جسدية.
ولم تحقق المفاوضات بين البلدين في قضية استعادة الأرشيف الجزائري، الذي قامت القوات الفرنسية بنقله إلى باريس عشية الاستقلال أو قبل ذلك، أي تقدم، بسبب تعقيدات فرنسية.
ففيما تصر السلطات الجزائرية على استعادته كاملاً، سارعت باريس إلى سن قوانين تعقد أية إمكانية لتسليمه إلى الجزائر.
وتطالب الجزائر السلطات الفرنسية بالكشف عن تفاصيل ملف ثالث، هو المفقودين خلال ثورة التحرير الوطني.
وأحصت الحكومة الجزائرية أكثر من 2000 قتيل لا يعرف مكان دفنهم حتى الآن، أبرزهم الشيخ العربي التبسي، أحد أبرز المراجع الدينية وشيوخ جمعية العلماء المسلمين خلال فترة الاستعمار، فيما أقرت السلطات الفرنسية مؤخراً بمسؤوليتها عن اغتيال المحامي علي بومنجل، بعد نحو ستة عقود من الإنكار.
ويأتي في مقام رابع ملف بالغ الحساسية، يتعلق بسعي الجزائر لاستعادة نحو 500 من جماجم المقاومين وبقايا رفات قادة وزعماء المقاومة الشعبية، الذين نكلت بهم فرنسا ونقلتهم إلى أراضيها، وبعضها عرض في المتاحف الخاصة، وخاصة بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس.
ويمكن اعتبار هذا الملف من أكثر القضايا التي عرفت تقدماً في المفاوضات الجزائرية الفرنسية، إذ تم في يوليو 2020 استرجاع 39 من جماجم قادة المقاومة الجزائرية.
وتعهد تبون، في حوارات صحافية أجراها عقب ذلك، بالإصرار على مواصلة استرجاع جماجم قتلى المقاومة الشعبية ودفنها في الجزائر، حيث تجري لجنة علمية مشتركة، عمليات لتحديد هوية ما تبقى من الرفات.
وتسعى الجزائر إلى طرح قضية الأموال والوثائق التاريخية الثمينة التي سرقت من أراضيها، وكذا قضية المهجرين لجزر كاليدونيا وغويانا وغيرها من المستعمرات الفرنسية وما ترتب عنها.
وكانت فرنسا قامت بنفي وترحيل العشرات إلى هذه الجزر، لكن الأجيال الجديدة تحاول إحياء العلاقة والروابط العائلية في الجزائر، التي نجحت السلطات فيها بتنظيم رحلات لهم لزيارة أماكن في البلاد، تمثل جذور عائلاتهم.
وعلى الرغم من بعض التطورات اللافتة في العلاقات بين الجزائر وباريس، وسعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتطوير مواقفه من العلاقة مع الجزائر ومعالجة ملفات الذاكرة، وإقدامه على بعض الخطوات، بينها الإقرار بمسؤولية فرنسا في مقتل المناضلين موريس أودان والمحامي علي بومنجل، إلا أن مسار المفاوضات بين البلدين في هذا السياق يصطدم بصعوبات، بسبب ما تعتقد الجزائر أنه تأثير وضغوط لجماعات ودوائر لها موقف عدائي ضدها.
وترفض الجزائر وضع ملفات الذاكرة رهينة سياقات سياسية، أو تجزئتها إلى مراحل أو محطات دون أخرى، من فترة الاحتلال الفرنسي، والذي يمتد من 1830 إلى 5 يوليو 1962، باعتبار أن جرائم الاستعمار الفرنسي ضد الإنسانية، ولا تسقط بالتقادم، وبعضها لا تزال آثاره قائمة، مثل التفجيرات النووية في الجنوب وملف المفقودين، والضحايا المشوهين جراء قنابل “النابالم”، وكذا مخلفات خطي “شال” و”موريس” المكهربين اللذين أقامتهما فرنسا منتصف خمسينيات القرن الماضي لخنق الثورة، وزرعت حولهما الآلاف من الألغام التي ما زالت تقتل الجزائريين حتى الآن.
تستعيد الجزائر هذه الأيام نشوة الاحتفالات بعيد الاستقلال الـ59، بعد ثورة تحرير أجبرت الاحتلال الفرنسي على الاعتراف بحق الشعب في تقرير مصيره ونيل استقلاله في الخامس من يوليو/تموز 1962.