بدأت حركة النهضة الإسلامية في تونس الاحتفال بالذكرى الأربعين لتأسيسها وسط جدل بشأن مستقبل وهوية الحزب الحاكم الذي تدرج من العمل السري إبان حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية وخلفه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، إلى حكم البلاد بعد انتفاضة 14 يناير.
فبعد عقود من الصدام مع الدولة وجد الحزب نفسه يعتلي دفة الحكم ما أرغمه على الإعلان عن القيام بمراجعات يشكك فيها منتقدوه، وذلك من أجل تجنب العزلة الداخلية وطمأنة الشركاء الخارجيين للبلاد خاصة بعد ما عرفته الفترة التي قادت فيها الحركة رأسا الحكومة خلال فترة الترويكا (2011 – 2013) من أحداث.
وبالرغم من أن خصومها يتهمونها بأنها لم تخرج بعد من جبّة الإسلام السياسي إلا أن الحركة تُصر على أنها باتت حزبا مدنيا، وأن همها الوحيد هو الحفاظ على مكتسبات انتفاضة 14 يناير، وهي أطروحات يرفضها طيف واسع من الشارع التونسي الذي راكم الغضب منذ 2011.
وبدا ذلك واضحا من خلال تراجع الخزان الانتخابي للحزب تدريجيا منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أواخر العام 2011 إلى انتخابات 2019 السابقة لأوانها، ولا تُنكر العديد من القيادات وجود “تقصير وأخطاء” من الحركة بشأن تحريك عجلة التنمية وغيرها.
من الدعوي إلى السياسي
مرت حركة النهضة الإسلامية بالعديد من المراحل قبل أن تصل إلى ما هي عليه اليوم، فنواة الحركة الأولى برزت في الأوساط المحافظة في ستينات القرن الماضي عندما كانت تلك الأوساط تسعى للقيام بردة فعل إزاء حملة التحديث التي قادها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.
وطالت حملة بورقيبة العديد من الهيئات الدينية وقامت بتهميش كبير لدور المؤسسة الدينية (جامع الزيتونة) وهو ما أحسن استغلاله في ما بعد الإسلاميون، حيث تم تأسيس “الجماعة الإسلامية” في أواخر الستينات بقيادة راشد الغنوشي (زعيم النهضة) وعبدالفتاح مورو وأحميدة النيفر وهي تنظيم يقوم بنشاط دعوي بالأساس لنشر تعاليم الإسلام، علاوة على رفض مشروع بورقيبة.
لم تتوقف الجماعة يوما عن نشاطاتها لكن ذلك كان يتم سريا إلى أن أعلنت رسميا في السادس من يونيو 1981 عن تأسيس “حركة الاتجاه الإسلامي” معلنة جملة من المبادئ التي تتبناها لكن السلطات رفضت آنذاك منحها تأشيرة، وبدأ نظام الزعيم بورقيبة في شن حملة ضد الحركة التي لم تتردد في مواجهته إلى أن رحل في 1987.
ولم يكتب رحيل الزعيم بورقيبة وتولي الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي زمام الحكم نهاية الصدام بين حركة الاتجاه الإسلامي والدولة حيث استمرت المعركة بينهما، واستمر في الأثناء نشاطها الدعوي حتى بعد أحداث 2011 التي أطاحت ببن علي إلى أن أعلنت في مؤتمرها العام العاشر الذي عُقد سنة 2016 فصلها بين الدعوي والسياسي تحت إكراهات الداخل والخارج.
وفي الوقت الذي يشكك فيه خصومها بشأن خروجها من جبة الإسلام السياسي وفصلها بين الدعوي والسياسي تُصر حركة النهضة وقياداتها على أنها نجحت في ذلك.
وقال الناطق باسم الحركة عماد الخميري إن “من التطورات الحاصلة بعد المؤتمر العاشر أن الحركة تعتبر الشأن الديني شأنا عاما، وبالتالي كل ما هو دعوي وجمعياتي هو مدني بالأساس وموكول للمجتمع”.
وأضاف الخميري في تصريح لـ”العرب” أن “الحركة استطاعت أن تتكيف باقتدار مع الظروف السياسية في إطار مراجعاتها وحصلت محاولات كثيرة لتحجيم وزنها السياسي من قبل خصومها في الداخل والخارج”.
لكن مختصين في حركات الإسلام السياسي يشككون في ذلك مشيرين إلى أن الحركات الإسلامية لا يمكن أن تتراجع عن الأيديولوجيا التي تأسست عليها.
وقال عبيد الخليفي وهو أستاذ باحث في الحركات الإسلامية إن “الحديث عن الخروج من جبّة الإسلام السياسي لا معنى له إزاء الحركات الإسلامية، فمرجعيتها قامت على توظيف الديني في السياسي توظيفا نفعيا للتعبئة والمشاركة السياسية من أجل الوصول إلى دواليب الحكم، وبالتالي فحركة النهضة ظلت وفية لمرجعياتها متلاعبة بالخطاب في الحديث عن فك الارتباط بالجماعة الأم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”.
وأضاف الخليفي لـ”العرب” أنه “بعد أربعة عقود: عقد التأسيس، عقد المواجهة، عقد المهجر وأخيرا عقد تجربة الحكم، لم تمارس حركة النهضة أية مراجعات حقيقية لبنيتها العقائدية والتنظيمية، وحتى تلك المراجعات الفردية كانت للمغضوب عليهم المستقيلين أو المطرودين من الحركة، ويكفي أن راشد الغنوشي ما زال يطبع كتبه دون تنقيح أو تطوير، أما أكذوبة الفصل بين السياسي والدعوي فهي مقولة للتوزيع الخارجي من أجل تلميع صورة الحركة في علاقة بما هو عقائدي في ظرفية صعود الحركات الجهادية وخوف العالم من الحركات الإسلامية، لكن خطاب الحركة وممارساتها في توظيف الديني لم تتغير”.
بعد 10 سنوات من ممارسة الحكم باتت النهضة تواجه اختبارا جديا وهو توحيد الصف الداخلي قبل مواجهة الأخطار المحدقة بها وبالمنظومة التي ساهمت في بنائها خارجيا.
فالاستقالات تعصف ولا تزال بالحزب وبكتله النيابية على وقع استمرار المماطلة بشأن المؤتمر الحادي عشر للحركة الذي تم إرجاؤه لأكثر من مرة وسط محاولات لقطع الطريق أمام سعي راشد الغنوشي للتمديد له من خلال تعديل القانون الداخلي للحزب.
وبدأ التململ يسود الحزب داخليا خاصة أن العديد من الوجوه البارزة قررت الانسحاب منه وكذلك الشأن السياسي على غرار عبدالفتاح مورو وعبدالحميد الجلاصي ولطفي زيتون وزياد العذاري وغيرهم من الأسماء.
وبالرغم من أن الحركة لا تزال تُحافظ نسبيا على تماسكها إلا أنه من الصعب التكهن بمستقبلها واستمراريتها في الحكم خاصة في ظل حالة الغضب المتزايدة من رئيسها راشد الغنوشي والتغيرات التي طرأت على الحزب وأجنداته.
وفي وقت سابق انتقد القيادي عبدالحميد الجلاصي بقاء الغنوشي على رأس الحركة لخمسة عقود مشددا على أن النهضة لا تحكمها المؤسسات بل من وصفهم بالمتنفذين.
وقال الجلاصي إن “النهضة ليست ديمقراطية في داخلها وأنّ ذلك سينعكس سلبا على البلاد باعتبارها الحزب الأوّل”، منتقدا التركز الشديد للصلاحيات داخل النهضة في يد راشد الغنوشي.
وكان العديد من القياديين داخل النهضة قد أطلقوا في ما سُمي بـ”مجموعة المئة” مبادرات من أجل الحيلولة دون تعديل الفصل 31 من النظام الداخلي للحزب بما يفسح المجال للغنوشي من أجل الترشح مرة أخرى لرئاسة الحركة.
ورغم جهود هؤلاء وتعهد الغنوشي بعدم الترشح مرة أخرى إلا أن المؤتمر الحادي عشر للحزب لا يزال معطلا تحت ذريعة الأسباب الصحية.
وجاء شعار الحركة للاحتفال بذكرى تأسيسها ليتمحور حول مسيرتها من المعارضة إلى تسلم مقاليد الحكم وهو “40 عاما من النضال والمسؤولية”، وكأن النهضة تتجاهل الحصيلة السلبية للفترة التي تقود فيها البلاد منذ 2011.
وبدأ رأي عام مناهض للحركة يتبلور في تونس في ظل الانتكاسات التي تعرفها البلاد على المستوى الاقتصادي وحتى السياسي على وقع حالة الانسداد التي آلت إليها الأوضاع بسبب نظام الحكم الذي تتشبث به النهضة والذي أدى إلى تشتت كبير للصلاحيات.
الخناق يضيق أكثر
وتقول الحركة إنها لا تتحمل لوحدها مسؤولية تردي الأوضاع بشكل كبير، حيث شدد عماد الخميري على أنه “لا شكّ أنها (النهضة) تتحمل جزءا من مسؤوليات تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكن المسؤولية مشتركة ونحتاج إلى عمل جدي والاهتمام بمشاغل التونسيين، ما زال أمامنا تحدي تحقيق التنمية والرفاه للتونسيين”.
وأردف “الحركة كرّست مبدأ التداول السلمي والديمقراطية وسمحت للمرأة والشباب بالمشاركة في الحياة السياسية وإدارة الشأن العام وصناعة القرار في الحزب”.
ومُنذ منحها تأشيرة اعتمادها كحزب سياسي في 2011 نجحت حركة النهضة في تصدر المشهد السياسي في البلاد بعد أن فازت في انتخابات أكتوبر 2011 بغالبية مقاعد المجلس الوطني التأسيسي،
وعقدت تحالفات مع أحزاب علمانية ويسارية سرعان ما تفككت أو فقدت شعبيتها ودخلت في أزمات داخلية حادة على غرار ما حدث مع حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية وكذلك حزب نداء تونس (الفائز في انتخابات 2014).
وإذا نجحت الحركة خلال فترة الترويكا في الخروج بأخف الأضرار من الحكم رغم ما رافقها من عنف واغتيالات سياسية وغيرها ليستقر في ما بعد الحال لها في ظل التحالف مع حزب نداء تونس والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فإن النهضة تواجه اليوم مجددا شبح الصدام مع الدولة.
فالشق الأكثر راديكالية من الدستوريين الذين حكموا البلاد منذ حصول البلاد على استقلالها إلى غاية اندلاع ثورة 14 يناير عادوا بقوة إلى الواجهة ممثلين في الحزب الدستوري الحر المعارض بقيادة عبير موسي التي ترفض أي تقارب مع الحركة الإسلامية وتتوعدها بمحاسبة على فترة حكمها للبلاد.
إضافة إلى الدستوري الحر، وجدت حركة النهضة نفسها بعد أشهر من انتخابات 2019 في مواجهة المرشح الرئاسي الذي دعمته بقوة في الدور الثاني وهو الرئيس قيس سعيد الذي لم يتردد في توجيه انتقادات حادة للحركة وللإسلاميين لكن دون أن يخطو نحو مواجهة مباشرة معهم.
وفي الوقت الذي يحمّلها فيه خصومها مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية ما جعل الشارع التونسي على صفيح ساخن منذ يناير الماضي حيث ما انفكت الاحتجاجات تعود إليه في مناخ يتسم بتوتر سياسي متزايد وأزمة اقتصادية خانقة، تقول الحركة إن حديث هؤلاء المنافسين مجرد مزاعم وإن الحركة نجحت في إدارة الشأن العام.
وقال عماد الخميري إن “الحركة انتقلت من طور إلى أطوار جديدة ودخلت بعد الثورة في خدمة الصالح العام والاهتمام بمشاغل المواطنين واكتسبت تجربة وخبرة في إدارة الحكم وتطوير السياسات سواء في إطار الحكومات المتعاقبة أو في علاقة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي”.
وأردف “هناك تطور على مستوى اهتمام الحركة بالشأن السياسي، ونحن في تجارب ديمقراطية من المفروض ألا تُتهم فيها النهضة بانقلاب أو استيلاء على الحكم، فهي جاءت عبر صناديق اقتراع ومع ذلك اختلقت الأطراف التي تنافسنا تهمة احتكار الحكم”.
في المقابل يرى محللون وخبراء تونسيون أن الحركة تواجه تراجعا كبيرا مردّه عجزها عن إيجاد بدائل حقيقية للتونسيين بعد أن غادرت مربع التهميش والإقصاء.
وقال عبيد الخليفي “خلال عشرية حكم النهضة خرجت الحركة من وضعية المظلومية والهامش إلى العجز السياسي في تقديم بديل اقتصادي واجتماعي وسياسي، ولم تكن شعاراتها سوى أفكار هلامية لا علاقة لها بالواقع، هي شعارات الاستقطاب والتعبئة ولكنها لا تحمل مشروعا تنفيذيا، وهو ما زاد من تأزيم الواقع التونسي أمام رغبتها في التمكين السياسي والإداري بممارسات لا أخلاقية تتعارض مع مرجعياتها العقائدية، فأغرقت البلاد في ديمقراطية فاسدة تجلت في المنظومات الثلاث؛ القضاء والإعلام والأمن، كل ذلك جعل شعبيتها تتدحرج من مليون ونصف المليون صوت إلى ما دون نصف مليون صوت، فالممارسة السياسية كشفت عنها لباس المظلومية وجدوى المشروع الديني في معالجة ما هو سياسي”.
صحيفة العرب
بقلم: صغير الحيدري