تميَّزت مواقف الجزائر من مواقف جميع الدول العربية، وكان أول موقف جزائري صريح وعلني ومفاجئ لجميع الدول العربية، التي كانت في صف العداء المطلق للدولة السورية، هو موقف وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة.
أدركت القيادة الجزائرية جيداً، منذ بداية الحرب على سوريا، ما يحاك لدمشق. وكان لها طوال الأزمة مواقف متميزة ومتقدمة على جميع الدول العربية، وحتى متعاطفة على نحو كبير مع الدولة السورية، وما تتعرّض له من حرب مخطَّط لها مسبَّقاً.
ولأنها فكّكت طلاسم الحرب المركّبة التي تعرضت لها، عرفت كيف تخرج منها وتحصّن الساحة الداخلية في الجزائر، وتلملم جراح السنوات العشر التي تعرّضت لها، وكانت واعية ومدركة حجم التآمر على سوريا، حتى إنها لم تَسْلَم خلال سنوات العُشرية السورية من الانتقادات والهجمات والاتهامات، وحتى التهديدات بأن دور الجزائر سيأتي بعد الانتهاء من سوريا.
تميَّزت مواقف الجزائر من مواقف جميع الدول العربية، وكان أول موقف جزائري صريح وعلني ومفاجئ لجميع الدول العربية، التي كانت في صف العداء المطلق للدولة السورية، هو موقف وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، في عام 2016، والذي اعتبر فيه أن الجيش السوري استرجع مدينة حلب من الإرهابيين، والذي كان مفاجئاً أيضاً لكثير من المتابعين للسياسة الخارجية الجزائرية أنه أول مسؤول جزائري كبير واضح وصريح يعبّر عن حدث يتعلّق بدولة جرت فيها أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، وأول مسؤول عربي يصف المعارضين السوريين في حلب بالإرهابيين.
موقف الجزائر كان موجَّها إلى الدول العربية، وإلى الأوروبيين، وإلى الذين كانوا يضعون في مخططاتهم أن الجزائر ستكون هي الهدف بعد سوريا، تبعاً للتصريحات والمؤشّرات والتحليلات، التي كانت تكتبها الصحف العربية والأوروبية. ونورد جزءاً منها:
– ورد في صحيفة بلجيكية توقعها أن تتحوّل الجزائر إلى “سوريا ثانية” في شمالي أفريقيا، وهو ما أثار غضب الخارجية الجزائرية، واستدعى رداً من سفيرها في بلجيكا، وذلك قبل أن يصرّح لعمامرة رداً على سؤال طُرح عليه على هامش مؤتمر السِّلم في أفريقيا، والذي عُقد في مدينة وهران الجزائرية (غرب): “ما حدث في سوريا هو أن الدولة السورية استطاعت استرجاع سيادتها وسيطرتها على مدينة حلب”، مضيفاً: “أن الأشخاص الذين هم وراء تصريح بروكسل، كانوا يحلمون بانتصار الإرهاب في حلب وفي أماكن أخرى، ولقد فشل الإرهاب، فهم يظنون أنه يمكن أن ينجح في الجزائر”.
فالمقال البلجيكي، الذي توقّع أن تشهد الجزائر مصير حلب نفسه، بكل ما تحمله الكلمة من حرب أهلية ودمار، أخرج السلطات الجزائرية عن تحفُّظها المعتاد، ودفعها إلى المجاهرة برؤيتها تجاه الأزمة السورية، بالرغم من دعوات شعبية، وخصوصاً من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، موجَّهة إلى السلطات الجزائرية من أجل الخروج من حيادها أمام التهجير القسري لسكان حلب، وإقامة جسر إغاثي عاجل.
ـ لطالما نظرت القيادة الجزائرية إلى “ثورات الربيع العربي” على أنها تهديد مباشر لها وللأنظمة الجمهورية، وخصوصاً بعد احتجاجات “الزيت والسكّر” في الجزائر، في كانون الثاني/ يناير 2011، والتي أعقبت الثورة التونسية. وتوقّع محللون من خارج الجزائر أن تتحول تلك الاحتجاجات إلى “ربيع عربي” في الجزائر بعد تونس، وفق نظرية الدومينو، وهو ما لم يتحقق نتيجة عدة أسباب، سنتطرّق إليها لاحقاً.
– أدى سقوط نظام معمر القذافي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، إلى “فتح أبواب جهنم على الجزائر”، بحسب أحد الوزراء الجزائريين، نظراً إلى أن الحدود الجزائرية ـ الليبية (قرابة ألف كلم) أصبحت مفتوحة أمام جماعات تهريب السلاح، إلى درجة أن الجيش الجزائري ضبط صواريخ مضادة للطيران، ناهيك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وأدى وصول كميات كبيرة من هذه الأسلحة إلى جماعات انفصالية في شمالي مالي (الطوارق والأزواد)، وإلى جماعات إرهابية (مثل حركة “الجهاد والتوحيد” في غربي أفريقيا، والتي أعلنت ولاءها لتنظيم “داعش” فيما بعد) إلى سقوط شمالي مالي في أيدي هذه الجماعات في عام 2012.
– اختلال الأمن في دول مجاورة للجزائر، مثل تونس وليبيا ومالي، دفع الجيش الجزائري إلى نشر عشرات الآلاف من جنوده عبر طول الحدود الشرقية والجنوبية، وكلف ذلك الجزائر ميزانية كبيرة لتأمين حدودها الملتهبة. ومع تراجع أسعار النفط في عام 2014، أصبحت ميزانية الدفاع تشكل عبئاً أكبر على الميزانية العامة للبلاد.
– تعرَّضت الجزائر عام 2013، لهجوم إرهابي عنيف على منشأة غازية في تيغنتورين (جنوب شرق)، انطلق فيه عناصر جماعة “الموقعين بالدماء”، والتي أسسها مختار بلمختار، المنشقّ عن “القاعدة” في عام 2013 (أسس جماعة “المرابطين”، ثم اندرج مجدَّداً مع تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي)، من شمالي مالي، وعبروا صحراء النيجر، ودخلوا بسهولة الجنوب الليبي، ومنه هاجموا الأراضي الجزائرية، وقتلوا عشرات الرهائن الأجانب، قبل أن تتمكن قوات الجيش الجزائري من القضاء على جميع العناصر المهاجمين.
حدَّدت هذه الأحداث ووضَّحت موقف القيادة في الجزائر مما اعتُبر “ثورات الربيع العربي”، واعتبرت أنها طوفان شعبي أسقط أنظمة صديقة أو حليفة، أو على الأقل حارسة للحدود المشتركة مع الجزائر، تمهيدا للوصول إلى الجزائر. كما أن المستفيد الأول من “الربيع العربي” هو تيار “الإسلام السياسي”، الذي أوصل “الإخوان المسلمين” إلى الحكم في مصر وتونس. لكنّ الأخطر من ذلك هو أن الجماعات الإرهابية، مثل “داعش” و”القاعدة”، استفادت من “الربيع العربي”، وخصوصاً من ناحية الاستيلاء على أسلحة نوعية، مكّنتها من السيطرة على مدن في المنطقة، مثل سرت في ليبيا، وغاو وتومبكتو وكيدال في مالي.
ـ أمّا بالنسبة إلى سوريا، فالأمر لا يختلف كثيراً للقيادة الجزائرية عن الوضع في ليبيا، بحيث تعتبر أن الجيش والحُكم السوريَّين يقاتلان تنظيمات إرهابية، على غرار “داعش”. ويعتقد القادة الجزائريون أنه في حالة سقوط الدولة السورية، ستتحول سوريا إلى غابة للجماعات الإرهابية والميليشيات المسلَّحة، التي ستتقاتل فيما بينها من أجل السلطة، مثلما يحدث اليوم في ليبيا وأفغانستان. وهذا ما يجعل سوريا مهدَّدة بالتقسيم، وخلق دويلات على أساس عرقي أو طائفي.
كما تنظر الحكومة الجزائرية إلى الحكم السوري على أنه ضمن ما يُسمى “محور المقاومة”، بحيث كان جزءاً من دول مجموعة “الصمود والتصدي”، والتي تشكّلت بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وتوقيع نظام الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع “إسرائيل” في عام 1978.
ويعتبر الحكم الجزائري “إسرائيل” عدواً استراتيجياً، إذ إنه لم يوقّع حتى اليوم اتفاقية تطبيع معها. وبالتالي، فهو ينظر إلى نظام الحكم في سوريا كحليف طبيعي في مواجهة العدو الصهيوني.
يتشابه النظامان الجزائري والسوري، فكلاهما نظام “قومي”، وإلى وقت قريب كانا يتبنّيان النظام الاشتراكي. كما أن النظام الجزائري لا ينسى أن سوريا كانت بين أربع دول فقط لم تفرض التأشيرة على الجزائريين، عندما كانت بلادهم تعاني أزمة أمنية خلال سنوات تسعينيات القرن الماضي.
ـ أمّا روسيا، بالنسبة إلى الجزائر، فهي حليف استراتيجي. فمعظم الأسلحة الجزائرية صناعة روسية. وبما أن موسكو شريكة في محاربة الإرهاب في سوريا، إلى جانب الجيش السوري والدولة السورية، فليس من الغريب أن تقف الجزائر مع المحور الروسي في مواجهة الغرب، الذي يزعم أنه يدعم “الثورة السورية”.
ـ من مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية التعامل مع الأنظمة بغضّ النظر عن طبيعتها. وبالتالي، فهي تفضّل التعامل مع الدولة السوريّة، التي تعتبر أنها ما زالت تملك الشرعية، على أن تتعامل مع المعارضة، التي ترى أنها غير موحَّدة ولا متجانسة سياسياً. أمّا عسكرياً، فهي منقسمة إلى عشرات الكتائب المسلَّحة والمتناحرة فيما بينها، بالإضافة إلى أنها متعددة الولاءات للخارج، وتفتقد قيادة عسكرية موحَّدة. وهذا ما يفسّر اعتراض الجزائر على أن تشغل المعارضة السورية كرسيَّ النظام الشاغر في الجامعة العربية، بحجّة أن الأخيرة تضم الأنظمة، وليس المنظمات أو الجماعات.
نستشفّ مما سبق أن تصريحات الرئيس الجزائري المتكرّرة لم تأتِ من فراغ، بشأن ما يحدث في سوريا. ففي 21 شباط/فبراير 2020، جدَّد مطالبته بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وقال إنها تستحقّ أن تعود لأنها وفية لمبادئها، وهي من أعرق الدول العربية، وإن امتدادها يعود الى الدولة الأموية. وقال إن كل ما تعرّضت له هو بسبب موقفها الرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني …
كل ما تمّ ذكره حدّد البَوْصَلة النهائية للقيادة الجزائرية مؤخّراً من أجل اتّخاذ مواقف متقدمة تجاه الشعب السوري، ودعم حكومته الشرعية، والتحذير، في الوقت نفسه، من استهداف الجزائر مرة أخرى، إن كان عبر الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، أو إثارة الاضطرابات، بحيث كان تصريح الرئيس تبون، المعاد المكرَّر، لتلفزيون “الشروق”، وقال فيه “إن بعض الأطراف أراد سوءاً بالجزائر بعد سوريا، لكن نقول لهذه الأطراف إن لحمنا مُرّ ولا يؤكل”.
وكما في سوريا، مرت الانتخابات الجزائرية بسلام كما مرت في سوريا، بل بنجاح كبير قلّ نظيره في تاريخ سوريا الحديث.
تحية الى شعب الجزائر العظيم والمناضل. وكما قال الرئيس الجزائري، لن نسمح بتكرار ما حدث في سوريا. نقول لأخوتنا في الجزائر أيضاً، نحن الشعب السوري لحمنا مُرّ، ومن المستحيل هضمه أو استساغته ومضغه، لأننا من مدرسة واحدة، وقيم متشابهة، وحضارة موغلة في التاريخ.
محمد كمال الجفا
محلل عسكري وسياسي
الميادين