موقع المغرب العربي الإخباري :
يمكنني أن أدعي بأن العلاقة الجزائرية الفلسطينية تجسد نوعا من التلاحم أزعم أن البشر جميعا قد لا يعرفونه ولا يمارسونه، مهما بلغت درجة المودة والتحالف والتعاطف.
كان هذا ما عبر عنه اللقاء التضامني مع الثورة الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات، والذي أقامه في مطلع هذا الأسبوع الشيخ محمد المأمون القاسمي، عميد مسجد الجزائر .
وبداية، لعلها فرصة لأقول إن اختيار تسمية الجامع الهائل والثالث من نوعه في العالم، بمسجد الجزائر، هو في نظري دليل عبقرية ليست غريبة على أبناء نوفمبر وابن باديس، فرغم عظمة المسجد ابتعدت التسمية عن أي تعظيم، فالعظمة لله وحده، ومع ملاحظة أن أسماء كثرة اقترحت كان من بينها اسم المسجد الأعظم، كما كان هناك من همس مقترحا تسميته باسم من أمر بتشييده وهو الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة، وسيظل المسجد شعبيا مرتبطا باسم الرئيس برغم الظروف التي ارتبطت باستقالته.
والمهم الآن أن العلاقات الجزائرية الفلسطينية تظل نسيج وحدها.
كان والدي، الشيخ الهلالي عميمور، خلال وجوده بالمشرق العربي ممن عملوا تحت رعاية مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وكان هو ممثل المغرب العربي كله في لجنة عروبة القدس، وكان يروي لنا، ما لم أكن أستوعبه وأنا في سن الطفولة، لكنني حفظته وأصبح جزءا من كياني، حيث كان يقول إن ذراع مجاهد الحملة الصليبية الجزائري “سيدي بو مدين” التي دفنت في القدس أصبحت كجذور شجرة تمتد من القدس إلى الجزائر وتربط بين الأرضين، وبين الإرادتين.
بعدها فقط بسنوات وسنوات عرفت لماذا اختار الرئيس بو مدين هذا الاسم على وجه التحديد ليكون جزءا من اسمه الثوري الذي عرفه به العالم بعد ذاك، وليدل، كعقرب الساعة، على نظرته وتفكيره وينعكس على موقفه وتفاعلاته.
وهكذا أدخل الرئيس الجزائري إلى قاموس البلاغيات الثورية تعبيرات أصبحت راسخة في اليقين الجزائري رسوخ جبال الأوراس وجرجرة والهقار.
فهل هناك من ينسى تعبيره الخالد الذي قال فيه ما معناه: القضية الفلسطينية، وبقدر ما نلتزم بها ومعها، هي الإسمنت الذي يربط الوطن العربي ويؤكد وحدته ويدعم قوته وصلابته، لكنها قد تكون المفجر الذي ينسف كل شيئ إذا لم نقم بواجبنا تجاهها، وطنيا وعربيا وإسلاميا وإنسانيا.
وهل هناك من ينسى صيحته الخالدة التي تجسد موقف كل وطني جزائري تجاه أرض الإسراء والمعراج ووطن الجبابرة، صيحة : نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، وواضح أن بو مدين استعان بكلمات سيد المرسلين محمد بن عبد الله عن نصرة الأخ (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ولست في حاجة لأشرح النص الذي فهمه الجميع كما يجب أن يفهموه.
سيقول السفهاء من القوم في بعض الزوايا المظلمة أن هذا موقف قيادي يلزم الرئيس الجزائري وحكومته ولكنه لا يعبر عما يحس به الشعب الجزائري وبخاصة، الشباب الجزائري، المتوقدُ وطنية وحيوية ونشاطا.
هنا أسمح لنفسي بالترحم على من أخترع آلات التصوير التي سجلت رفع الشباب الجزائري للعلم الفلسطيني خلال تظاهرات الحراك المبارك، ليس في شوارع الجزائر وميادينها فحسب ولكن في أوربا، وحيث للوبي الإسرائيلي وجود مؤثر على مختلف المستويات، وهناك تسلق الشباب الجزائري أعمدة الكهرباء ليرفعوا العلمين متقاطعين.
أكثر من ذلك، عندما استضافت الجزائر فريق الكرة الفلسطيني فوجئ الضيوف بأن جماهير الشباب كانت تهتف مؤيدة للفريق الفلسطيني الذي كان يواجه فريقا وطنيا جزائريا، وسمعنا من يقول: لن نسمح بأن تهزم فلسطين عندنا ولو في لعبة كرة.
ولعلي أتذكر هنا أن الرئيس بو مدين أقصى مسؤولا جزائريا ساميا من كل مناصب الدولة لأنه أساء تقدير خط سفره فحطت به الطائرة في مطار إسرائيلي، سمح زبانيته لأنفسهم بتلويث جواز السفر الجزائري.
ما هو السرّ في هذه العواطف التي لم يعرفها بلد على الإطلاق ؟
لعلنا نجد في التاريخ بعض الإجابة.
لقد كان اليهود جزءا من النسيج الديموغرافي الجزائري منذ فرّ معظمهم من الأندلس مع من طردوا من المسلمين، واستقر السفارديم في الشمال الإفريقي حيث احتضنهم المواطنون، لكنهم تواطؤوا مع الاستعمار الفرنسي وكان منهم من قام بدور الطابور الخامس لفتح الباب أمام الاستعمار الفرنسي في 1830، فكانوا رمزا للنذالة والجحود
وبمجرد أن لوح لهم “كريميو” بقانونه المشهور في 1870 حتى اختاروا جميعا الجنسية الفرنسية، ليُعطوا لأنفسهم وضعية متميزة فوق الجزائريين.
ولم تكن ممارساتهم مشرفة بأي حال من الأحوال، فكانت أحداث قسنطينة في منتصف الثلاثينيات، عندما تبول يهودي على جدار مسجد فلم يكمل يومه حيّا، ونتج عن ذلك صدامات خلفت العديد من الضحايا، وأصبح الجزائري البسيط يضيف كلمة “حاشاك” عندما ينطق بكلمة يهودي.
وجرى اغتيال الدكتور “الخازندار” الذي كان يحاول حماية اليهود المحليين عندما تنسحب القوات الفرنسية، بدعوتهم إلى الابتعاد عن دعم القوات الفرنسية، ولكن عناصر الجزائر الفرنسية من اليهود قامت باغتياله، ثم حدث اغتيال مشبوه لمحاوره اليهودي الدعو “ريمون”، وهو صهر غاستون غارناسيا، الذي كان يدعى أنركو ماسياس.
ولقد قلت بأن الاغتيال مشبو لأنه تم بمسدس مكتوم الصوت، وهو ما لا يستعمله الفدائيون الجزائريون، ما زكى الشعور بأن القاتل من أبناء جلدة القتيل، لاستثارة طائفته وتحريضهم ضد المسلمين.
أما أنريكو ماسياس فقد كان من أبرز مغنيي الطابع القسنطيني الجزائري، وظل جزءا من الذاكرة الفنية الجزائرية الحية، يتابعه كثير من الجزائريين.
لكن ماسياس كان في مقدمة من راحوا يرقصون أمام السفارة الإسرائيلية في باريس تشفيا في الهزيمة العربية إثر خديعة يونيو 1967، وهنا حطم الجزائريون ما يملكونه من اسطواناته، ووُضع على رأس القائمة السوداء فيما يتعلق بالدخول إلى الجزائر.
وهكذا تناسى الجزائريون مواقفه ضد الثورة الجزائرية ومجاهديها لكنهم لم يغفروا له تشفيه في الوطن العربي إثر الهزيمة.
ويحدث، إثر تولي الرئيس بو تفليقة رئاسة الجزائر، أن أقيم حفل في فرنسا لتكريمه وكان ماسياس من بين المدعوين، فانحنى على الرئيس الجزائري ودموعه تسيل على خديه طالبا السماح له بزيارة موطن أجداده في قسنطينة والترحم على موتاهم.
ولم يكن أمام الرئيس إلا أن يقول له تفضل.
كان الرئيس بو تفليقة في أوج قوته وفي قمة تأثيره وكان حماس الجزائريين لانتخابه هائلا، خصوصا وقد كان يعتبر من أقرب المقربين للرئيس الراحل هواري بو مدين، لكن الشعب الجزائري رفض أن تتم زيارة المغني الصهيوني انتقاما من رقصاته المتشفية في الهزيمة العربية والسعيدة بانتصار إسرائيل.
وأسجل هنا وقفة الإخوة عبد العزيز بلخادم وخالد بن إسماعيل وكل من وقفوا إلى جانبنا في التصدي لهذه الزيارة ومن بينهم أبو جرة سلطاني وآخرون، ولا أنسى أنني سمعت يومها من الهادي خديري مدير الأمن الوطني تأنيبا أخويا كان يكون تحذيرا، يقول: إنكم بموقفكم هذا تقفون ضد رئيس الجمهورية وتسيئون له، وكان ردي الفوري على المسؤول الأمني الكبير: الرئيس تصرف ديبلوماسيا كرئيس ونحن تصرفنا تلقائيا كمواطنين.
هنا يبدو واحد من عناصر التوافق بين الثورتين، فالشعبان تعرضا للاستعمار الاستيطاني وللقمع العشوائي ولمحاولات محو الهوية الوطنية بل ولسرقة المعالم الوطنية، حتى أن هناك مؤسسات فرنسية تخصصت في صنع “الكسكسي” ، وهو من خصوصيات المغرب العربي، تماما كما يحاول الصهاينة سرقة الأزياء الفلسطينية وادعاء يهوديتها، وهم يعملون اليوم على بناء “خوذة ذهبية” في القدس لمنافسة قبة الصخرة وتحويل الاهتمام عنها.
وهنا يأتي معلم آخر من معالم التشابه والتوافق، وهو الإصرار على التمسك المطلق بالانتماء للوطن، حتى مع البعد الجغرافي، وهو ما نعيشه كل يوم مع فلسطيني الشتات وما رأيناه مؤخرا من العواطف الوطنية لدي أحفاد الثوار الجزائريين الذي تم نفيهم منذ نحو مائة وخمسين سنة إلى كاليدونيا الجديدة، غير بعيد عن أستراليا.
هذا قليل من كثير يؤكد نوعية العلاقة بين ثورتين، ثورة انتصرت وثورة في طريق الانتصار، ثورة انتصرت بفضل الوحدة الوطنية وثورة عليها أن تسير في نفس الطريق ونحو نفس الهدف.
ويبقى أن مما يثير الأسى أن السفارة الفلسطينية في الجزائر لم تشارك في الحفل التضامني، رغم أن الشيخ المأمون أكد لي، ردّا على تساؤلي، بأن الدعوة وجهت لها، وفهمت شخصيا بأن هناك من ليست متحمسا لما تدعو له الجزائر، يقينا أو تحريضا، وهو ما قد يتطلب ألا نتعامل مع قضية خاسرة.
ولا أملك إلا أن أقول: المجد والخلود للشهداء الأبرار، ولا قرّتْ أعين المطبعين والمنبطحين والمهرولين.
تحيا الجمهورية الجزائرية وعاشت الثورة الفلسطينية وعاشت الشعوب التي تؤمن بأن الحياة وقفة عز وشرف وإباء.
رأي اليوم
بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور
انسخ الرابط :
Copied