بعد أيام من التوتر بين المغرب والجزائر، وسببه كالعادة المواقف العدائية التي عوّدتنا عليها الرباط منذ السنوات الأولى لاستقلال الجزائر في العام 1962، جاءت تصريحات الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاستفزازيّة والوقحة لتعكس مضمون التّحالف والتّآمر الفرنسيّ – المغربيّ على الجزائر، البلد المناضل عربياً وأفريقياً. فقد شهدت علاقات الرباط بالجزائر منذ البداية العديد من مراحل الفتور والتوتر لأسباب عديدة، منها قضيّة الصحراء الغربية (في الأول من الشهر الجاري، اتخذت محكمة العدل الأوروبية قراراً ألغت بموجبه اتفاقيتين تجاريتين سابقتين بين المغرب والاتحاد الأوروبي، تشملان استيراد منتجات مصدرها الصحراء الغربية المتنازع عليها)، ولكن أهمها هو الارتباط العضوي بين حكام المغرب مع الحركة الصهيونية حتى قبل قيام “الدولة” العبرية على أرض فلسطين.
وكان هؤلاء الحكّام حتى في فترات الاستعمار الفرنسي للمغرب على تواصل دائم مع قيادات المنظمات اليهودية في فرنسا، التي هرب منها اليهود إلى المغرب بعد الاحتلال النازي لها. وأثمر هذا التواصل هجرة ما لا يقل عن 300 ألف يهودي مغربي إلى “إسرائيل” بعد قيامها في العام 1948، ليكونوا من حيث العدد الجالية الثانية (حوالى 800 ألف) بعد يهود روسيا في “إسرائيل” الحالية.
وقد شغل العديد من يهود المغرب مناصب عسكرية واستخباراتية وسياسية مهمة طيلة السنوات الماضية، ليكونوا أكثر صهيونية من الصهاينة في عدائهم لانتمائهم “العربي المغربي” وتآمرهم على الشعب الفلسطيني غدراً وخيانةً.
وكانت القصة الأغرب في تآمر الأنظمة العربية والإسلامية على الشعب الفلسطيني، عندما تم اختيار العاهل المغربي الحسن الثاني رئيساً للجنة القدس التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في العام 1975. وكان ردّ الملك المغربي، ومن خلفه، واضحاً على هذا “التكريم”، فلم يدعُوا اللجنة إلى الاجتماع إلا عدة مرات خلال الأعوام الـ45 الماضية، بل تماديا في تآمرهما على القدس وفلسطين وكل من معها من الشرفاء والمخلصين.
يفسر ذلك فرح الملك محمد السادس وبهجته وحماسه للمصالحة مع “إسرائيل”، التي أعلن عنها الرئيس دونالد ترامب بالوكالة في 10 كانون الأول/أكتوبر 2021، واعترف يومها بملكية المغرب للصحراء الغربية. هذا بالطّبع بعد أن اعترف ترامب بالقدس عاصمة دينية وتاريخية وأبدية لـ”الدولة” العبرية، وهو ما لم يبالِ به العاهل المغربي ما دام يهود المغرب كانوا سعداء بذلك، ومنهم أندريه آزولاي مستشاره ومستشار والده الحسن الثاني، وهما معاً في الخندق نفسه للتآمر على القضية الفلسطينية وكل من يدعمها، وفي مقدّمتهم الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
وكان آزولاي، وهو إلى جانب الملك دائماً، ينقل تفاصيل القمم العربية إلى “تل أبيب” لحظة بلحظة، ليثبت بذلك ولاءه للصهيونية العالمية التي أدت دوراً أساسياً في انتخاب ماكرون رئيساً لفرنسا في العام 2017، بعد أن عمل في مصرف روتشيلد اليهودي المعروف.
واستنفرت عائلة روتشيلد كلّ إمكانياتها من أجل ماكرون الَّذي لقي دعماً كبيراً من الأثرياء اليهود من أصل مغربي، ومنهم باتريك دراحي وسيدني توليدانو وموريس ليفي صاحب مجموعتي “ستاركوم” و”بوبليسيس” الإعلاميتين العملاقتين، وهم جميعاً أعضاء في منظمة الحركة الصهيونية في فرنسا Le Conseil Pepresentatif des Institutions Juives)).
وقد تفسّر هذه المعلومات عداء ماكرون للإسلام، وبالتالي تحالفه مع الأنظمة العربية المتواطئة مع “تل أبيب”، وموقفه العدائي الأخير ضد الجزائر، بلد المليون شهيد، والمنتصر على الاستعمار الفرنسي المعروف بهمجيته ودمويّته التي أثبتها بالتجارب النووية الفرنسية والإسرائيلية في صحراء الجزائر.
الرئيس ماكرون الَّذي تعرَّض لإهانة أميركيّة مقصودة وواضحة في أستراليا، ولاحقاً في أماكن أخرى، يسعى للتغطية على جرائم بلاده في الجزائر وأفريقيا عموماً، وإبعاد الأنظار عن وقاحته، مذكراً بتاريخ الدولة العثمانية في الجزائر، ناسياً أنَّ تركيا وقفت إلى جانب بلاده ضدّ استقلال الجزائر في الأمم المتحدة في العام 1960-1961، بسبب عضويّتها في الحلف الأطلسي.
الرئيس ماكرون الذي تجاهل التقرير الصّادر (الثلاثاء الماضي) عن لجنة تحقيق مستقلّة، وتحدّث عن تعرّض أكثر من 216 ألف طفل لانتهاكات أو اعتداءات جنسية ارتكبها رجال دين كاثوليك في فرنسا لفترة 1950-2021، مع احتمالات أن يصل الرقم إلى 330 ألفاً، وهو حدث مروع، تناسى أنَّ الملك الفرنسي شارل الثامن ولويس الثاني عشر أجبرا السلطان بيازيد على إرسال سفنه في الأبيض المتوسط لنقل يهود إسبانيا، بعد سقوط الدولة الأندلسية 1491-1493، إلى إسطنبول وأراضي الدول العثمانية، ونقل ما تبقى منهم إلى المغرب، ليأدوا لاحقاً دوراً مهماً في مجمل مشاكل المنطقة برمتها، بما في ذلك سقوط الدولة العثمانية وما سبقها من أحداث، وأهمها وعد “بلفور” واتفاقية “سايكس بيكو”، والهدف منهما إقامة كيان يهودي في فلسطين.
كما تجاهل ماكرون العلاقة الوطيدة بين تركيا والمغرب، مع المعلومات التي تتحدَّث عن تعاون عسكري بين البلدين، بما في ذلك بيع المسيّرات التركية للمغرب، على الرغم من الفتور والتوتر بين باريس وأنقرة، اللتين سبق أن التقت حساباتهما في سوريا، ومن دون أن نتجاهل التوقيت الزمني للعداء الفرنسي/المغربي للجزائر، والذي جاء بعد اعتراض الجزائر على قرار الوحدة الأفريقية التي منحت “إسرائيل” صفة عضو مراقب في المنظمة التي لم تكن لتفعل ذلك لولا تواطؤ بعض الأنظمة العربية والإسلامية وسكوتها على أفعال “تل أبيب” ضد الشعب الفلسطيني. ويتذكَّر الجميع كيف كان عبد الناصر ونيكروما ولومومبا وبن بيلا وبومدين والقذافي والنميري، ولاحقاً مانديلا، يتصدّون لمساعي “إسرائيل” للتوغل والتغلغل داخل القارة السمراء.
وقد نجحت “إسرائيل” في اختراق العديد من دول أفريقيا، بما فيها إثيوبيا، بعد أن دمّرت القوى الإمبريالية والاستعمارية دول الزعماء أعلاه. وها هي تسعى لإجبار ما تبقى للاستسلام لـ”إسرائيل”، كما هو الحال مع دول الخليج والسودان والمغرب، وهو المسار الذي بدأ بـ”كامب ديفيد”، واستمر بـ”وادي عربة”، وحقَّق البعض من أهدافه بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”.
وفي جميع الحالات، ومهما كان حجم التآمر الفرنسي/المغربي ومن معهما على الجزائر، التي كانت الهدف الأول للمشروع الاستعماري الجديد، عبر تسويق الإسلام السياسي الدموي أواخر الثمانينيات، وهو ما تكرّر بشكل أكثر دموية في دول “الربيع العربي”، يعرف الجميع أنَّ شعب الجزائر العظيم كان وسيبقى أبداً نموذجاً للإباء الوطني والقومي في مواجهة كلّ المتآمرين داخلياً وخارجياً، كما يعرفون أنّ الشّعوب العربيّة وما تبقى من دولها القليلة كانت وستبقى أبداً إلى جانب شعب الجزائر، وهي جميعاً تتذكّر بطولات عبد القادر الجزائري وجميلة بوحيرد ومئات الآلاف من أمثالهما من أبناء هذا الشعب العظيم، الذي يشهد التاريخ له أبداً (وليس للمستعمر الفرنسي ومن تواطؤوا معه في المغرب ودول أخرى) بالبطولات والشرف والكرامة، وهو ما كان وسيبقى كافياً لصمود وانتصار هذا الشعب ووطنه، وبتضامن دول صديقة وشقيقة كانت وستبقى كفيلة بإسقاط أي مشروع داخلي وخارجي يستهدف الجزائر، مهما كان عدد المتآمرين فيه إقليمياً ودولياً. وقد سقطت مشاريعهم جميعاً قبل ذلك في سوريا، التي لجأ إليها عبد القادر الجزائري، وها هي الآن، ومعها حلفاؤها، يتصدون جميعاً لكلِّ من يعادي الجزائر والجزائريين!.