لا شكّ أن فندق ”الأوراسي” الشهير في العاصمة الجزائرية والمُطلّ على سحر المدينة ببيوتها وشوارعها العريقة وبحرها الأزرق الصافي، استعاد في الأيام الخمسة الماضية شيئا من انتعاشه السابق وحيويته العربية التي افتقدها طويلاً؛ ففي بهوه الواسع كانت ابتسامات الوفود العربية تتلاقى واللهجات العربية تتقاطع بعد فراق طويل وحرائق عربية كادت تقضي على كل أمل باستعادة التلاقي على أرض دولة عربية.
هي الدبلوماسية الشعبية تسعى لتعبئة النقص الذي خلّفته السياسات الرسمية العربية انطلاقا من بلاد قدّمت في ثورتها الأولى مليونا ونصف مليون شهيد للاستقلال الذي تحتفل حالياً بذكراه الستين، ثم قدّمت في ثورتها الثانية خير مثال على إمكانية التغيير والإصلاح على نحو سلمي ودون التخلي عن أي من الثوابت العربية وفي مقدمها قضية فلسطين، فاستحق ما حصل فيها لقبَ الربيع.
من هذا الربيع كانت سنونوات اللقاء في وهران قبل أيام تُبشّر بأمل التلاقي العربي من على صهوة المجتمعات المدنية، وبدعم وتشجيع من قبل الرئيس عبد المجيد تبّون. فـ”المرصد الوطني للمجتمع المدني” الحديث الظهور، نظّم من 10 إلى 15 سبتمبر الجاري، ما سمّاه ”منتدى تواصل الأجيال، لدعم العمل العربي المشترك”، ورسم رئيسه عبد الرحمن حمزاوي خطوطه العريضة الأولى في كلمته الافتتاحية التي ركّزت على أهمية التلاقي المجتمعي العربي ومركزية قضية فلسطين وحل الخلافات العربية بالسياسة والحوار، والاستعداد للتموضع مُجدّدا على خريطة العالم الذي يزداد انقسامه ومحاوره وأطماعه.
اللقاء بحد ذاته انجاز
من على سنواته المديدة التي لم تُلغِ شيئا من حيويته، ومن خلف نظّارتيه، تشعّ عينا الكاتب القطري المخضرم والدبلوماسي السابق محمد صالح المُسفر فرحاً وهو يرمي السلام قبل العناق على من وصل، ثم يلقي محاضرة جريئة ومُباشرة حول اختراق الوطن العربي طولا وعرضا بالقواعد والتدخلات الإقليمية والدولية، يأتي المُسفر كالمعتاد بثيابه التقليدية القطرية البيضاء، ومثله يفعل الكاتب والإعلامي المعروف جابر سالم الحرمي الذي يدير مجموعة إعلامية واسعة في الدوحة. ومن مسافة أبعد بقليل يفتح النائب الموريتاني العروبي صهيب ذراعيه من فوق “درّاعته” الموريتانية الزرقاء الجميلة عاكسا بهجة اللقاء، ونلمح الكاتب الفلسطيني والأستاذ في الجامعات الأميركية د. عبد الحميد صيام، والكاتب ذا المؤلفات العديدة والمهمة حول الجزائر وغيرها رياض الصيداوي، والدكتورة ابتسام الكتبي رئيسة مركز الإمارات للسياسات، والدكتورة والشاعرة والكاتبة الفلسطينية فيحاء قاسم عبد الهادي، وفي وسط البهو تلمع ابتسامة الإعلامية التونسية الشهيرة والقديرة إنصاف اليحياوي والى جانبها الناشطة الأردنية في مجال الأسرة وتمكين المرأة وإلغاء كافة أشكال التمييز رانيا حيّوك والدكتور جمال الشلبي أستاذ العلوم السياسية في الأردن، والنائبة السابقة في مجلس الشعب السوري ماريا سعادة التي أتت مصحوبة بوفد سوري نسج علاقات جيدة في هذا اللقاء وعوّض بعض غياب سورية عن القمة العربية العتيدة، ولم تتردد ماريّا في تشجيع الجميع على رفع الأصوات عاليا وبحماسة كبيرة لتصدح بنشيد “موطني” في الفندق الشهير أو على شواطئ وهران.
وعلى يمين بهو الاستقبال تُسرّع الإعلامية الجزائرية وسيلة لبيض الخطى صوبنا فيرشح وجهُها محبة وترحيباً، وخلفها الدكتورة التونسية الشابة والهادئة على ذكاء ملحوظ أسماء ميساوي، وعلى يسار البهو يتقدّم صوبنا الناشط والكاتب العماني عبد الحميد بن حميد الجامعي بثوبه العماني الفريد قبل أن يلقي في المؤتمر قصيدة رائعة لوالده عن ثورة الجزائر ويروي للمشاركين أنه كتبها من فوق شجرة نخيل كان يجني رطبها حين سمع عبر المذياع المتكئ على الشجرة نفسها عن انتصار الثورة الجزائرية قبل 60 عاما واستقلال البلاد.
وليس بعيدا عنه تجلس الناشطتان نعمت بدر الدين وغادة عيد ود. قيصر من لبنان، فتسمع في البهو نقاشاتهم الحماسية مع الدكتورة البحرينية سهير المهندي، والرسامة التونسية المُبدعة والناشطة السياسية تقوى وضيوف عرب آخرين جاؤوا من معظم الدول العربية يحاولون رأب الصدع العربي وتوسيع رقعة التفاهم وتضييق مساحة الخلافات. ونُلاحظ أن وجود السيدات العربية الناشطات في مجتمعاتهن والرائدات في مجالاتهن كان كبيراً ومُهمّاً وكذلك تناغم الأجيال وبينهن الوزيرة اللبنانية السابقة منال عبد الصمد التي اختتمت جلسات المؤتمر بحسن إدارة.
تتقاطر عبارات ”السلام عليكم” وتحيات الصباح من الوفود العربية العديدة، فيتعانق من تلاقوا بعد فراق من بيروت ودمشق والعراق واليمن إلى الخليج والمغرب العربي والسودان ومصر وغيرها، ويتعاتب من وصلوا من بلاد الحرائق والحروب مع أشقَّائهم القادمين من دول كانت أكثر استقراراً في السنوات العجاف، ويتصافح من يتعارفون لتوّهم، وتلوّن الملابس التقليدية المختلفة من اليمن والسودان والبحرين والسعودية وموريتانيا والكويت ومناطق الجزائر المتنوّعة وغيرها فرحة التلاقي ولمعة المآقي.
اجتمع على أرض الجزائر في الأيام القليلة الماضية 130 عربياً من 19 دولة وذلك في مبادرة استثنائية قام بها المرصد الوطني. هذه هي التجربة الأولى للمرصد الحديث الولادة، في القفز فوق التناقضات والفتن العربية، والتأسيس لحوارٍ جدّي في محاولة لاستنهاض مشروعٍ عربي عبر المجتمع المدني، كما أنها المبادرة الأولى من نوعها في إسماع صوت الشعوب العربية للقادة العرب قبل قمتهم والاتفاق على مجموعة من التوصيات التي لو أخذها القادة بعين الاعتبار فهي حتماً ستغيّر الكثير من رتابة القمم وتكرار قراراتها. وهل أكثر قدرة وشرعية تاريخية وحالية من الجزائر على استنهاض مشروع عربي على أرضها مع بعض الأشقاء الراغبين فعلا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه والانطلاق نحو تنمية مستدامة حقيقية لأجيال تكاد تضيع.
مجرّد اللقاء العربي المتنوّع على أرض عربية هو إنجازٌ في هذا الزمن العربي الرديء، فقد كادت السنوات العشر السابقة وما تخلّلها من تطورات وتحولات إقليمية ودولية ومن تحويل بعض الساحات العربية التي بؤر للحروب والفتن الداخلية ولحروب الآخرين فوقها، أن تدفع الشباب العربي الغارق بأتون البطالة (ثلث الشباب العربي تقريبا عاطلون عن العمل) والأميّة (أكثر من 100 مليون عربي) إلى مزيد من اليأس، وبالتالي إلى مزيد من الإرهاب والمخدّرات والموت في البحر في مواسم الهجرة اليائسة إلى الشمال.
مجرّد اللقاء إذن هو انجازٌ بحد ذاته، لكن لقاء ”وهران” المدينة الساحرة في غرب البلاد، لم يقتصر على بهجة ومجاملات اللقاءات، وإنما أفسح في المجال للوفود العربية بالانخراط في نقاشات عميقة حول قضايا العرب وشؤونهم وشجونهم. وراح كل متحدّث على المنبر أو في القاعة يقدّم وجهة نظره بشأن العناوين السياسية العربية الكُبرى أو حول قضايا المجتمع المدني وضرورة التلاقي وتطوير المجالات التكنولوجية، والعلمية والاقتصادية وغيرها.
وفي فترات بعد الظهر كان الناشطون الجزائريون في المرصد الوطني يتفنّنون في تسهيل حياة الضيوف وتجميل أيامهم الوهرانية أو الجزائرية، فتتعدّد الزيارات السياحية إلى مناطق ومواقع تنبض بالتاريخ والحضارة وتضاهي أهمّ المواقع التاريخية والسياحية والثقافية في العالم، لكنها تختلف عنها أن السياحة في الجزائر ضعيفة رغم ضخامة وعراقة مخزونها، وذلك لأسباب لا يعرفها إلاّ الجزائريون أنفسهم، فثمة من يقول إن الجزائر حذرة من توسيع دائرة السياحة لأسباب أمنية وأخلاقية، والبعض الآخر يفاخر بالقول إن البلاد لا تحتاج للسيّاح الذين قد يشوهون معالمها الحضارية وعادات أهلها، وإن فيها من الخيرات والثروات ما يكفي. لكن الوفود الزائرة حديثا أو المعتادة على زيارة هذا البلد العربي الإفريقي الشاسع وذي اللوحات الطبيعية الرائعة والأراضي الخصبة المعطاء والتاريخ العريق والثروة الشبابية الكبيرة وشهامة أبناء الأرض، أجمعوا في خلال هذا اللقاء على ضرورة إحياء هذا القطاع السياحي في الجزائر، لأنه ليس فقط مصدر ثروة مالية وإنما وخصوصا لأنه مصدر اعتزاز لكل عربي. وأجمعوا كذلك على نقاط عديدة أخرى وبينها فتح الحدود أمام الشعوب.
أهل المرصد: تفانٍ فريد
يُطلُّ المتطوعون في المرصد الجزائري كل صباح بوجوههم المُبتسمة ليهتموا بكل تفصيل دقيق. يتوزّعون بين الضيوف يسألون عن حاجاتهم، يسارعون إلى حل أي مشكلة أو تلبية أي طلب دون تذمّر أو تعب. يسهرون معنا حتى ساعة متقدّمة من الليل، ويصحون فجرا ليكونوا في خدمة الوفود.
وحين نتعرّف عليهم أكثر، نكتشف أنهم جاؤوا من مجالات مختلفة ومن مستويات علمية وثقافية عالية، فهذا سمير بوعزيز يحمل شهادتي أرشيف وتاريخ المغرب، ولا يوازي خبرته وعلمه إلا تواضعه اللافت وسهره الدائم على راحة الضيوف، وهذا أحمد بن خلاف عضو في المرصد لكنه أيضا مُطرب مُبدع يفاجئنا بموهبته ونحن ننتقل بالحافلة من وهران إلى تلمسان العريقة، فيغني لنا من ألحان وموسيقى منطقته قسنطينة أو من موسيقات مغاربية وعربية كثيرة أخرى، وهذا حافظ الأسد مدير المعلوماتية الذي أسماه جدّه تيمّنا باسم الرئيس السوري الراحل ينتقل بحيويته اللافتة وتدفق حواراته من ضيف إلى آخر للتشاور بكل تفصيل دقيق، وهذا مختار الدبلوماسي المثقّف يروح ويجيء بين الوفود دون كلل أو ملل لتسهيل جلسات الحوار وتحضير البيان الختامي، وكذلك الأمر بالنسبة لسنوسي محمد مدير الإدارة العامة وسيد أحمد حمروش مدير دراسات وكنزة نشار المديرة الفرعية للعلاقات الخارجية ولكحل عبد الحكيم مدير الملتقيات والعلاقات، جميعهم كما كل الشباب والصبايا الذي كانوا يبثّون حيويتهم ومحبَّتهم وابتساماتهم على الجميع نهارا وليلا.
لم يكن منتظرا من هذا المنتدى الأول للمرصد في وهران، أن يفعل أكثر مما فعل؛ فالتحضير لهذا اللقاء جاء على عجل ليسبق القمة العربية، ويؤسس لفكرة مهمّة ومفيدة وضرورية للمجتمعات العربية، ذلك أن التحولات الكُبرى التي حصلت وتحصل على مستوى الدول العربية، تفرض لغة جديدة ومشروعا جديا يأخذان بعين الاعتبار حاجات الشباب العربي من مجالات تكنولوجية وعلمية ومعرفية وثقافية واقتصادية والخروج من لغة سياسية خشبية ما نفعت بشيء لنهضة العرب وتكاملهم.
مرّت أيامُنا الجزائرية سريعةً، بفضل النقاشات الحيوية، وتفاني متطوعي المرصد في جعلها أجمل وأسهل، لكنها كانت أياما مُكثفة وواعدة بوضع اللبنة الأولى لمشروع أكثر طموحاً ولتوسيع الفكرة نحو التأسيس لمرصد عربي جامع يسبر أغوار المجتمعات العربية ويرصد حاجاتها ويراقب سياسة السُّلُطات ويقدّم اقتراحات ناجعة لمستقبل أفضل.
صحيحٌ أن ثمة مواضيع كان ينبغي ألا تكون بالأصل خلافية، كقضية فلسطين، أظهرت بعض التباين بين الوفود، إذ أن البعض جاء إلى أرض الجزائر مُتسلّحا بالموقف الرائد للبلاد والقائل: ”إننا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، وبعضها الآخر حاول الضغط لعدم ذكر فلسطين في البيان الختامي، لكن ما صدر في هذا البيان أخذ بعين الاعتبار مسألة أن جمع العرب الآن، حتى هو الأساس، وأن كل الأمور الأخرى يُمكن أن تُعالَج مع تكرار الاجتماعات، فبقيت فلسطين متصدرة البيان الختامي لكن دون ذكر التطبيع.
لا شكّ أن هذه هي اللبنات الأولى لمشروع عربي، وهي حتماً تحتاج للتطوير في الدورات المُقبلة، كمثل إقامة ورشات عمل متنوّعة في خلال انعقاد مثل هذه اللقاءات، بغية تقديم اقتراحات علمية تستند إلى خبرات المشاركين، ولا شك أن اختيار الضيوف والمشرفين على إدارة الحوارات تحتاج إلى دراسة أعمق كي لا تُبتلى المجتمعاتُ المدنية العربية بما ابتليت به كل الاجتماعات الرسمية العربية من طوباويات وشعارات فارغة وأوهام وكلام كثير يبقى كلاما دون الانتقال إلى حيز الفعل، ولا شك ثالثاً أن الدورات المُقبلة تتطلب اهتماما أكبر بوضع إستراتيجية إعلامية عربية تواكبها وتنقل نقاشاتها إلى آفاق عربية أرحب، لكن ما حصل في الجزائر، وبسرعة قياسية، كان أكثر من مهم وكافٍ في الوقت الراهن. وما كان باستطاعة أي دولة على الأرجح الآن وبسرعة قياسية القيام بما قامت به الجزائر من جمع كل العرب، ولم يغب سوى المملكة المغربية وجزر القمر والصومال.
وانتهى المنتدى إلى إقرار جملة من التوصيات أهمها بلورة رؤية جديدة موحدة اتجاه التحديات الراهنة والمستقبلية التي تهم الشأن العربي لاسيما التكنولوجية منها وكذا تداعيات حالة الاستقطاب الدولي وانعكاساته الوخيمة على العالم العربي، بالإضافة إلى الأزمات والكوارث الطبيعية والمناخية وما تفرزه من آثار سلبية على اقتصاديات الدول ونسيجها الاجتماعي، يكون المجتمع العربي فيها رديفا، بل حليفا وشريكا فعالا للحكومات العربية، يكمل ويدعم جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة فيكثف التفاهم والتوافق والتضامن والتعاون.
وأوصى المنتدى أيضا بمواصلة الالتفاف حول قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، من خلال موقف موحد وقوي عبر إحياء مبادرة السلام العربية دعما لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وعلى رأسها حقه في إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وتفعيل دور مختلف فعاليات المجتمع المدني من جمعيات وأكاديميين وخبراء وإعلاميين ومبدعين ومثقفين وتنسيق مبادراتهم وجهودهم للحفاظ على مركزية وأولوية القضية الفلسطينية، فضلا عن دعمها متعدد الأوجه، سياسيا واقتصاديا وإنسانيا، بما فيها مسألتي اللاجئين والأسرى الفلسطينيين مع ضرورة حماية مدينة القدس المحتلة من السياسات الإسرائيلية الممنهجة والاستيطانية الرامية إلى تغيير وضعها التاريخي والقانوني والديمغرافي.
كما وجّه المنتدى دعوة للجامعة الدول العربية إلى وضع آليات للتعاون والتفاعل مع المجتمع المدني العربي وإشراك ممثليه في رسم وتنفيذ السياسات العربية، في إطار توحيد الرؤى حول القضايا ذات الأولوية والاهتمام المشترك.
الشروق