بعدما استرجعت سوريا مقعدها في الجامعة العربية، حريّ بنا اليوم أن نذكّر بأنّ الجزائر كانت أول من نافح من أجل هذه القضية، في موقف لطالما استوقف الانتباه واستحثّ سيلاً من القراءات أغرق مجملها في الاعتماد على مداخل عاطفية لتفسيره، مهملاً بذلك النضج الإستراتيجي الذي انطوى عليه.
والحقّ أنّ المناحي التي اتخذتها تلك القراءات، ومتكآتها التي استندت إليها، كان فيها كثير من الإجحاف بحقّ موقف جزائري لم يراعِ في الحقيقة مصلحة سوريا وأمنها فحسب، بل راعى أيضاً المصالح العليا للأمة العربية ووحدتها وأمنها.
الآن وقد انقشع ضباب العداوات العربية-العربية المختلقة والمتوهمة، وخفَّت نزعات الإذعان للأجنبي، وعاد إلى العقول رشدها الإستراتيجي الّذي يخوّلها تقبّل ما كان لا يروقها، لا بأس بأن نحدّد، ولو لماماً، تلك المرتكزات الإستراتيجية والأمنية التي حددت الموقف الجزائري.
لنذكّر في البدء بأنّ الجزائر تحفظت عن قرار تعليق عضوية دمشق في الجامعة العربية منذ اجتماع القاهرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، مبررةً تحفّظها بكون القرار خاطئاً إستراتيجياً ومخالفاً لنصّ الميثاق المؤسس للجامعة.
وبخلاف كثير من الدول، لم تقطع الجزائر صلات التواصل الدبلوماسي الرسمي مع سوريا، ولم تبادر بأيِّ سلوك ينطوي على عداء لها، فأبقت سفارتها لدى دمشق مفتوحة مثلما لم تغلق سفارة دمشق في عاصمتها، ولم تنخرط في أيّ صفة في الأزمة السورية الداخلية، ولم تقم بأيّ فعل من شأنه أن يذكّي النزاع السوري-السوري. ورغم عبء الإكراهات وسيل الانتقادات، ظلت الجزائر ثابتة على مواقفها طيلة العقد الماضي، فلم تغيّرها ولم تعدّلها ولم تتراجع عنها.
ولمّا نكبت سوريا بزلزال شباط/فبراير المنصرم، هبّت الجزائر لنجدتها، وكانت سبـّاقة في تلبية نداءات استغاثة الأشقاء السوريين، غير آبهة بالحظر الجائر المفروض عليهم وعلى وطنهم.
لا مراء في كون هذا الموقف الجزائري إزاء سوريا والثبات الراسخ عليه ناتجاً من ذلك التأثر بالمحدّد الحضاري القيمي والتمسّك بفكرة الأمة في السياسة الخارجية الجزائرية حين يتعلق الأمر بالقضايا العربية والإسلامية.
يحصل الثبات على هذه المحدّدات في مواقف الجزائر حيال قضايا الأمة العربية والنزاعات العربية-العربية منذ استقلال الجزائر التي تعدّ في أصلها امتداداً مباشراً للعلاقات التي أنشأها قادة جبهة وجيش التحرير الوطنيين مع الدول العربية خلال فترة الثورة التحريرية.
ووفاءً منها لهذه العلاقات التاريخية، وعرفاناً بالتضحيات العربية في سبيل تحرّرها، حافظت الجزائر دوماً على موقف الحياد في كل ما تعلّق بالنزاعات العربية-العربية، ورفضت -وترفض- كلّ تدخّل أجنبي في الأرض العربية والإسلامية.
وبفعل رسوخ تمسّكها بانتمائها إلى الأمّة العربية، تعد الجزائر في عقيدتها الأمنية أنّ استهداف أمن العالم العربي هو استهداف لأمنها، وأنّ أعداءه هم أيضاً أعداؤها، ولم يحدث أن انحرفت عن هذه العقيدة منذ استقلالها، ولم يكن لها دور في أيّ نزاع أو خلاف عربي – عربي، داخلي أو ثنائي، إلا من باب تسويته أو حله.
بالإسقاط على موقفها من سوريا وما مورس ضدّها داخل أسوار الجامعة العربية، يتبيّن أنّ الجزائر لم تحد عن خطها العقائدي والسياسي المعرّف لسياستها الخارجية منذ استقلالها عام 1962. والحال هذه، فإنّ تفسير موقف الجزائر من سياسات الجامعة العربية حيال سوريا منذ 2011 تفسيراً معيارياً ليس خطأ، لكنه لا يعطينا صورة إضافية عن كل مسوّغاته. ولكي نصل إلى الإلمام المنشود به، يجب أن نتوقف عند الأوجه الإستراتيجية والأمنية لذلك الموقف الجزائري.
إنّ أول متكأ إستراتيجي بنت عليه الجزائر رفضها استبعاد سوريا من الجامعة العربية هو يقينها بأنّ قرار تعليق العضوية لم يكن قراراً عربياً، بل كان قراراً أجنبياً صادراً عن عدو. دعونا نذكر هنا بأنّ مندوب الدولة العربية الذي حمل مقترح تعليق عضوية سوريا إلى مجلس الجامعة أتى به باللغة الإنكليزية وسلّمه للحاضرين من دون أن يكلف نفسه عناء ترجمته!
لقد كان واضحاً يومها أن الحبكة حبكت بيد أجنبية، وأنّ الجامعة سائرة نحو تنفيذ ما يملى عليها وبما يتنافى مع علة وجودها ومصلحة شعوبها. ومع ذلك، فقد اتخذ القرار ضدّ سوريا، وعلا صوت النزق السياسي على النضج الإستراتيجي الذي أبانته الجزائر.
لقد وصفت الجزائر قرار تعليق قرار تعليق عضوية سوريا بالخطأ الإستراتيجي، لأنها أدركت مبكراً أنَّ انجرار الجامعة العربية وبعض دولها إلى مثل هذه الممارسات هو سقوط آخر في فخ تفكيك المنظومة العربية، بل وسير في الاتجاه الذي يفضي إلى تفكيك الدولة القطرية العربية. ولو أنّ الذين عادوا سوريا حينها تفطنوا إلى هذه المكيدة، لرأوا أن المصير الذي رسمه الغرب لسوريا هو المصير نفسه المرسوم لهم أيضاً في زمان آتٍ.
إن مأساة الجزائر التي عاشتها في تسعينيات القرن العشرين كانت المتكأ الثاني لموقفها من سوريا. من المؤكد أنّ تلك المأساة كانت حاضرة في مخيال صانع القرار الجزائري لحظة اتخاذه موقف التحفّظ عن تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، فقد رأى حينها شريط الدمار والخراب والجثث والدماء يمر أمامه، وتذكر ما كابدته الجزائر حين تركت عزلاء تصارع منفردة وحشية التآمر والإرهاب على حدّ سواء.
بالتوازي، أدركت الجزائر أنّ الانجرار في استعداء سوريا وعدم إفساح المجال لنمط آخر من التسويات العربية -العربية بعيداً من منطق العقاب واستدعاء الأجانب وإذكاء الاقتتال الداخلي هو انجرار نحو إضعاف كتلة الدول المقاومة للكيان الصهيوني الرافضة للتطبيع والمؤيدة للمقاومة.
بمعنى آخر، كانت الجزائر على يقين بأنّ المراد من استهداف سوريا هو تفكيك الكتلة التي تنتمي إليها، وليس مستبعداً أن تكون هي أيضاً مستهدفة بما دبّر لسوريا ونفّذ بأيادٍ عربية.
مع مرور الوقت، تبيّن صواب هذه الرؤية الجزائرية؛ ففي حين انشغل الأشقاء بتنفيذ ما حيك ضد سوريا في دهاليز التآمر كان مشروع التطبيع مع الصهاينة يجري على قدم وساق، وتـُرِك الفلسطينيون يواجهون مصيرهم فرادى عزّلاً.
الآن، وقد عاد الكثيرون إلى جادة الصواب، وعادت القضية الفلسطينية إلى مركز العمل العربي المشترك منذ قمة نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في الجزائر، فقد أيقنوا أنّ موقف الأخيرة بُني على يقين بأنّ استهداف سوريا كان يرمي إلى استبعاد فلسطين من دائرة الانشغال الأمني العربي، وأن حرصها على وحدة الجامعة العربية كان حرصاً على وحدة الهوية الأمنية العربية التي يجب أن يكون الكيان الصهيوني (لا سوريا)، وفقها، عدواً للجميع.
لقد أيقن الذين لم يفهموا موقف الجزائر بالأمس أنّ سياستهم لم تجرّ الدمار على أمن سوريا وأمن شعبها فحسب، بل جرت مزيداً من الدمار لمنظومة الأمن العربية برمّتها، ولأمنهم أيضاً، فحتى أولئك الذي تورّطوا مباشرة في الأزمة السورية، وكانوا سبباً في تأجيج الصراع الداخلي صاروا يتمنّون اليوم أن تستتبّ الأوضاع في سوريا، وأن تعود لها قدرتها على التحكّم في أمنها وأمن حدودها.
من الواضح إذاً أنّ الجميع أدركوا فداحة الأخطاء التي ارتكبت ضدّ سوريا، وأنها كانت أخطاء ضدّ المنظومة الأمنية الإقليمية العربية برمتها جرّت على الأمة وعلى السوريين مآسي لن تمحى وخراباً من الصعب جداً أن يرمم. ذلك ما كانت، وما زالت، تلح عليه الجزائر.
أما وقد سجّل التاريخ للجزائر موقفها وأنصفها، ولو بعد عقد، فإن المأمول اليوم هو أن تستمر ديناميكية رأب الصدع الذي مزق الأمة العربية، وأن يستفاد من التجربة السورية المريرة مستقبلاً كي لا تتكرر الأخطاء مع دول عربية أخرى.
والأهم من هذا وذاك هو الاقتناع بأنَّ الحتمية الجيوسياسية والاعتماد الأمني المتبادل بين الدول العربية يفرضان على الدول العربية التفكير بمنطق إقليمي وبمقتضيات مصلحة الأمة بعيداً من الحسابات الضيقة للمصالح، ذلك أن ما يحمل ضراراً لأمن دولة من الدول العربية ومصالحها الحيوية سينتشر ويصيب الجميع، ولو بعد حين، وإن بدت فيه ظرفياً مصلحة قطرية لإحدى الدول.
إن هذا واحد من أهم الدروس التي علّمتها الأزمة السورية للعرب.
الميادين