يعتقد البعض ويريد البعض الآخر دفع الناس إلى الاعتقاد بأن قضية الصحراء الغربية هي العقبة الرئيسية أمام وحدة بلدان المغرب. هذا الطرح هو طرح الملكية المغربية، بصفة خاصة، التي تستهدف من ورائه التدليل على أن الجزائر هي التي تضرّ بوحدة بلدان المغرب من خلال موقفها من تلك القضية.
ألا يقع المشكل، في الحقيقة، في مكان آخر: وجود ملكية من جهة وجمهوريات من جهة أخرى؟ هل يمكن إقامة الوحدة بين هذه وتلك؟ ألا يوجد تعارضٌ بينها؟ إن الوحدة المغاربية تعني، في الواقع، نهاية الملكية المغربية ضمن جمهورية المغرب الموحدة، بصورة آلية، وإلا يتوجب أن نعتبر أن الملكية المغربية توحد تحت قيادتها، على غرار بروسيا بالنسبة للوحدة الألمانية، مجموع بلدان المغرب وهو مستحيلٌ بالطبع. إذن من المنطقي أن تظهر الوحدة بين بلدان المغرب على أنها مصدر تهديد لوجود العرش المغربي نفسه.
يضغط الرأيُ العام أكثر فأكثر من أجل نشر الإنكليزية واستعمالها. والغريب في الأمر هو أن دائرة الفرنكوفونية المحلية تبدو قلقة من هذا الجانب أكثر مما هي قلقة من تعزيز استعمال العربية؛ فيترك دفاعُها عن الفرنسية ضد الإنكليزية انطباعا مفاده أنها استبطنت بعضا من السمات التاريخية للقومية الفرنسية، من بينها بُغض الإنكليز. يا للعجب!
من هذه الزاوية، يمكن قراءة قضية الصحراء الغربية قراءة مختلفة تماما. لقد كان مشروع فرض السيادة على الصحراء الغربية، منذ البداية، بمثابة طوق النجاة للملكية المغربية؛ ففي الوقت الذي كان العرش يتزعزع بفعل المحاولات لإقامة نظام جهوري، تماهت تلك الملكية تماما مع مطالبتها بالصحراء الغربية حتى أصبحت سيادتُها على الصحراء الغربية تمثل قضية حياة أو موت لمصير العرش نفسه. لكن مقابل ذلك، يكون الفشل في هذا المشروع بمثابة النهاية للنظام الملكي. لو تعلق الأمر بنظام جمهوري، لكانت التوقعات مغايرة تماما كون النظام الجمهوري كفيلا بتوفير إمكانات أكثر بكثير وبخاصة إمكانية تجاوز النزاع القائم عبر حركية التوحيد لبلدان المغرب التي تعاني، في الوقت الراهن، من الانسداد للأسباب المذكورة.
جمهورياتٌ وملكيات
نجد نفس المشكل بين الملكيات والجمهوريات في المشرق أيضا، حيث تتوفر مجموعة من العوامل المشابهة بخصوص الوحدة: الثقافة، اللغة، التاريخ، الجغرافيا، الشعور بالانتماء العربي– الإسلامي وتجمع إقليمي سبق أن توحد في الماضي. إلا أننا نصطدم، هنا أيضا، باستحالة انصهار الملكيات في وحدة مع الجمهوريات لأنه يهدد وجودها ويعني زوالها. ومن الواضح أنها تمكنت، حتى الآن، من إضعاف الجمهوريات العربية، الواحدة تلو الأخرى، بمساعدة الغرب. وبالتالي يسود الانطباع أكثر فأكثر بأن التناقضات داخل الفضاء العربي– الإسلامي، الممتد من المشرق إلى المغرب، تتكشف بقوة متزايدة عبر مواجهات بين جمهوريات وملكيات. وهناك عنصرٌ مشترك آخر بين جزئي العالم العربي يمكن أن نضيفه ويتمثل، بصفة عامة، في التأييد الغربي الواضح للملكيات والتحالف بينها وبين الكيان الصهيوني في كل من المشرق والمغرب. وبناء على ما تقدَّم نتساءل عما إذا لم نكن في الحالتين، حالة المغرب وحالة المشرق، نحيا ظرفا تاريخيا يتطلب فيه التقدم صوب الوحدة الانتقال الحتمي والمعمم إلى الجمهوريات؟
إفريقيا الشمالية أم المغرب؟
في المغرب، أفضت دروب التاريخ إلى الالتقاء الحالي بين أزمتين: أزمة جزائرية– فرنسية وأزمة جزائرية– مغربية. فضلا عن كونهما كشفتا بوضوح عن وجود تعاطف متبادل بين فرنسا والملكية المغربية، فإن الأزمتين تعملان شيئا فشيئا على إظهار ملامح مشروعين مختلفين للوحدة المغربية: واحد يحمل حلم الحركة الوطنية التأسيسية وهو مشروع المغرب العربي، بمعنى مشروع الوحدة السياسية لمغرب من 100 مليون نسمة يمتدّ من موريتانيا إلى ليبيا، وآخر يدعو إلى الإبقاء على الدول الحالية ضمن إفريقيا الشمالية باعتبارها فضاءً جغرافيًّا للجوار والتبادل وليس باعتبارها أمة.
تأخذ المفردات هنا دلالة لا تخفى عن أحد؛ فالحديث عن المغرب أو عن إفريقيا الشمالية يعبّر عن نظرتين مختلفتين تماما: نظرة تعلو على الفواصل الاستعمارية وتعيد الربط مع تاريخنا الضارب في القِدم، ونظرة ترسِّخ تلك الفواصل وحتى تبلورها وتنمِّيها.
حدثٌ لا سابق له
هناك مظهرٌ آخر لالتقاء الأزمتين المشار إليهما: إنه أفضى إلى وقوع حدث قد يصبح تاريخيًّا لو تأكد، وهو الحدث المتمثل في كون بلد صاعد كالجزائر يقدِم على معاقبة قوة يفترض أنها مسيطرة. سواء كان القرار المتخذ تلقائيا، مزاجيا، معبِّرا عن شهامة وطنية أو عن أفق استراتيجي، فهذا لا يغير من الأمر شيئا. إن القرار اتُّخِذ بالفعل وأدى إلى وقوع حدثٍ هام للغاية، والمستقبل وحده كفيلٌ بالكشف عما إذا كان حدثا عارضا أم معلميا على طريق قادم الأيام.
في حال تأكّد كحدث معلمي، سوف يحمل بالضرورة إشارة إلى تغيّر في ميزان القوة وإلى تطور على المستويين الإقليمي والدولي. ما الذي جعله ممكنا؟ من المحتمل جدا أن تكون الجزائر قد اكتشفت فجأة أنها ببساطة “لا تحتاج إلى فرنسا”، لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا ثقافيا. بالفعل لو فتشنا اليوم عن القطاعات التي قد تكون في تبعيةٍ لفرنسا، أو لا يوجد فيها بديلٌ عن فرنسا، لصعُب العثورُ عنها.
كأنّ حكما مسبقا تبدَّد. كثيرة هي النخب الحاكمة الجزائرية التي آمنت طيلة عشرات السنين أو دفعت إلى الإيمان بأن الجزائر ” لا تستطيع الاستغناء عن فرنسا” وبأن “من الواجب التحلي بالواقعية”، الخ. في الحقيقة، كانت هذه النخب تصوّر تبعيتها هي الثقافية، الاقتصادية، المالية والاجتماعية على وجه الخصوص، على أنها تبعية البلد.
نزاعٌ لغوي
يعمل التقاء الأزمتين الحاليتين على شحذ القومية بحدّة وبالتالي القومية اللغوية. وكما يحدث باستمرار، يظهر النزاعُ اللغوي في الأفق. تعلن وزاراتٌ عن انتقالها الكامل إلى اللغة العربية في إدارتها ولاسيما على مستوى المراسلة. ويضغط الرأيُ العام أكثر فأكثر من أجل نشر الإنكليزية واستعمالها. والغريب في الأمر هو أن دائرة الفرنكوفونية المحلية تبدو قلقة من هذا الجانب أكثر مما هي قلقة من تعزيز استعمال العربية؛ فيترك دفاعُها عن الفرنسية ضد الإنكليزية انطباعا مفاده أنها استبطنت بعضا من السمات التاريخية للقومية الفرنسية، من بينها بُغض الإنكليز. يا للعجب!
إنها تشاهد فقدانَها لآخر خط دفاعي عن الفرنكوفونية، المتمثل في حجة الانتفاع من الفرنسية كوسيلةٍ للحصول على التكنولوجيا والعلوم. حقا كيف يمكن معارضة الإنكليزية بحجة كهذه ما دامت الإنكليزية هي بالتحديد اللغة الدولية للحصول اليوم على المعرفة العلمية والتكنولوجيات، وفي الوقت ذاته، لغة العلاقات الاقتصادية والتجارية العالمية؟ هذه المعارضة غير منطقية تماما وهي بمثابة إقرار صريح بأن أصحابها يضعون المصالح الضيّقة لفئة اجتماعية فوق المصالح العامّة للبلاد، وهو موقفٌ يستحيل الدفاعُ عنه.
تعيش الجزائر الآن أزمتين متزامنتين، واحدة تخص علاقاتها مع فرنسا وأخرى تخصّ علاقاتها مع المغرب. تبدو هاتان الأزمتان وكأنهما تتفاعلان وتتداخلان وتنتجان آثارا متعددة. هل يعود هذا الأمر للصدفة فقط أم هو مؤشرٌ على وجود علاقة عميقة، عضوية، بينهما؟ سيتكفل المستقبل بالإجابة بكل تأكيد.
المصدر الشروق