لم يطل موسم الانفراج والتقارب بين الجزائر وفرنسا، فمجدداً تحال العلاقة بينهما إلى خانة التوتّر والتأزّم الدبلوماسي على أثر ما سمي بـ”قضية أميرة بوراوي”، وهي رعية جزائرية مطلوبة لدى القضاء الجزائري أجليت إلى فرنسا عبر تونس حيث كانت في حالة إقامة غير شرعية.
كدليل على شدّة التوتر، جاءت برقية وكالة الأنباء الجزائرية بشأن الحادثة زاخرة بعبارات الاستنكار والاستهجان، وانطوت على تلميح جزائري إلى أنّ القطيعة بين فرنسا والجزائر أوشكت أن تقع كما لم توشك من قبل، وهو ما يستحثّه -بحسب البرقية عينها- جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية ممثلاً في المديرية العامّة للأمن الخارجي الفرنسي (DGSE) وأذرعه في الكيدورسيه، وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري في الإيليزيه.
عكس التوقّعات التي رجّحت مزيداً من التهدئة وابتعاداً عن منطق التنائي الذي ساد العلاقات بين البلدين في إثر أزمة تشرين الأول/أكتوبر 2021، يتّجه منحى العلاقات بين الجزائر وفرنسا نحو التصعيد منذ 6 شباط/فبراير المنفرط، قياساً إلى ردّ فعل الرئاسة الجزائرية التي استدعت سفير الجزائر لدى باريس للمشاورة، ناهيك بتصريحات وزير الاتصال الجزائري محمد بوسليماني، في حوار صحافي له يوم 11 شباط/فبراير، التي أكّد فيها أنّ فرنسا وإعلامها يعمدان إلى تغليط الرأي العام العالمي فيما يخصّ قضية أميرة بوراوي.
انتكاسة في إثر انفراج
مال جلّ تحاليل المتابعين والمهتمين بالعلاقات الجزائرية-الفرنسية إلى طرح تفاؤلي في تنبّئهم بمستقبل هذه العلاقات، ولقد استند هؤلاء في تفاؤلهم إلى ديناميكية التهدئة وتبادل الزيارات بين البلدين التي بدأت تتكرّس منذ الزيارة الرسمية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الجزائر بين 25 و27 آب/أغسطس 2022، والتي تلتها زيارة وزيرته الأولى إيليزابيث بورن على رأس وفد من 13 وزير و3 كتّاب دولة، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2022، ثمّ زيارة وزير داخليته جيرالد دارمانان، في 16 كانون الأوّل/ديسمبر من السنة ذاتها، وصولاً إلى زيارة قائد أركان الجيش الجزائري الفريق الأول سعيد شنقريحة إلى فرنسا بدعوة من نظيره ثيري بوكارد، في 23 كانون الثاني/يناير 2023.
جسّدت تلك الزيارات المتبادلة نسبياً ما اتُّفق عليه في “إعلان الجزائر المشترك من أجل شراكة متحددة بين الجزائر وفرنسا” الذي نصّ على تعزيز التبادلات رفيعة المستوى بين الجزائر وفرنسا وفق فلسفة جديدة قوامها الندّية، احترام سيادة الدولتين، والنأي عن سلوكات التدخّل في الشؤون الداخلية.
خلال الفترة التي شهدت هذه الزيارات، عادت المكالمات الهاتفية بين الرئيسين تبون وماكرون، انعقدت الدورة الخامسة للجنة الحكومية الجزائرية الفرنسية عالية المستوى، استؤنفت العلاقات القنصلية بين الجزائر وفرنسا في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022، وعاد منح التأشيرات إلى المواطنين الجزائريين إلى معدّله الطبيعي (كان قد خُفّضَ بنسبة 50% في أيلول/سبتمبر 2021)، فضلاً عن انعقاد اجتماعات ولقاءات بين رجال الأعمال والمستثمرين من البلدين، بالأخصّ في مجال الطاقة، وبرمجة لقاءات أخرى في المستقبل ضمن ما يعرف بـ”اللجنة الجزائرية الفرنسية الاقتصادية المختلطة”.
تلكم أبرز الأحداث التي حفزّت التفاؤل بشأن العلاقات الجزائرية الفرنسية، بيد أنّ تدخّل فرنسا –عبر جهازها القنصلي في تونس العاصمة واستخباراتها الخارجية – من أجل إجلاء امرأة ليست صحافية ولا مناضلة ولا تحمل أيّ صفة، بتعبير برقية وكالة الأنباء الجزائرية، جاء مناقضاً لمنحى المسار الذي أراده رئيسا البلدين للعلاقات بين دولتيهما ومقوّضاً له، وأعاد سُحُب الشكّ واللايقين حول استمرار ديناميكيتها الجديدة التي أطلقت منذ آب/أغسطس 2022.
فرنسا تهرّب مهاجرة غير شرعية
غادرت أميرة بوراوي إلى تونس عبر الحدود الجزائرية-التونسية، في 3 شباط/فبراير 2023، وتبيّن لاحقاً أنّها دخلت التراب التونسي بطريقة غير شرعية، وهو ما اكتشفته شرطة الحدود التونسية في مطار قرطاج (في تونس العاصمة) حين استظهرت بوراوي جواز سفرها الفرنسي وهي تهمّ بركوب طائرة نحو فرنسا في السادس من شباط/فبراير.
ولأنّها مطلوبة لدى القضاء الجزائري، صدر في حقّها قرار بعدم مغادرة التراب الوطني الجزائري من العام 2021، وبحكم التعاون والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية التونسية والجزائرية، لا سيما فيما يتعلّق بتسليم المطلوبين للعدالة، فقد تمّ توقيف بوراوي في المطار حيث أعلمها رجال الشرطة التونسية بأنّه سيتعذّر عليهم السماح لها بمغادرة تونس وبأنّها سترحّل إلى الجزائر.
قبيل الرحلة التي كانت ستقلّها إلى الجزائر العاصمة في اليوم ذاته، تدخّلت الخارجية الفرنسية لدى الرئاسة التونسية، وفقاً لصحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية في عددها الصادر يوم 11 شباط/فبراير، واضعة بوراوي تحت الحماية القنصلية الفرنسية بوصفها حاملة لجواز سفر فرنسي. في إثر ذلك، أخلي سبيل بوراوي ونقلت إلى مقرّ القنصلية العامة الفرنسية قبل أن ترحّل ليلة اليوم نفسه إلى فرنسا عبر رحلة جوية نحو مدينة ليون.
وقد اتضح لاحقاً بأنّ بوراوي كانت على تواصل مع القنصلية العامّة الفرنسية طيلة فترة تواجدها في تونس، وأنّ التنسيق بينهما كان يقتضي استظهار جواز السفر الفرنسي حصراً وعدم استظهار جواز السفر الجزائري الذي ادّعت المعنية بأنّها أضاعته. كذلك، لا يستبعد أن يكون التنسيق بين الطرفين قد بدأ منذ كانت بوراوي في الجزائر، وأنّ خروجها أيضاً عبر الحدود الجزائرية التونسية كان بإشراف وتدبير فرنسيين.
وفي تعليقه على فعل الخارجية الفرنسية، قال المتحدّث الرسمي باسم الكيدورسيه: “سنستمر في تعميق العلاقات الثنائية مع الجزائر”، وأنّ أميرة بوراوي “استفادت من الحماية القنصلية بوصفها مواطنة فرنسية”، رافضاً في الآن نفسه التعليق على قرار استدعاء السفير الجزائري للمشاورة.
تورّط جهاز الاستخبارات الفرنسية الخارجية
في المقابل، جاء الردّ الجزائري على فعل وزارة الخارجية الفرنسية سريعاً حازماً، وصدر عن الرئيس شخصيّاً، إذ استدعى الأخير سفير بلاده في فرنسا للتشاور فوراً. من جهتها، وتعليقاً على الحادثة، رأت الخارجية الجزائرية أنّ ما قامت به فرنسا “أمر جدّ مؤسف”، ولا يخدم العلاقات الثنائية بين البلدين.
أمّا وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، فقد نشرت برقية جاء فيها أنّ الاستخبارات الفرنسية لم تعد تخفي مناوراتها الساعية إلى إحداث القطيعة بين الجزائر وفرنسا. وتأكيداً على هذا، ورد في البرقية “أنّ إجلاء امرأة؛ لا هي صحافية ولا مناضلة ولا تحمل أيّ صفة، في ظرف 48 ساعة، واستقبالها، وفسح المجال لها للحديث عبر قنوات تلفزيونية عمومية (ظهرت بوراوي على القناة العمومية الفرنسية الخامسة يوم 09 شباط/فبراير) هو دليل على تورّط الاستخبارات الفرنسية في العملية”.
وأضافت: “الجميع يعلم بوجود خطّة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية-الفرنسية على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، خطّة ينفّذها عملاء سرّيون و”خبارجية” وبعض المسؤولين على مستوى المديرية المذكورة، ووزارة الخارجية الفرنسية، وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري لا يخفون ولعهم بالمخزن وتبجيلهم له”.
واختتمت البرقية بالقول: “إنّه لمن المؤسف رؤية كلّ ما بني بين الرئيسين تبون وماكرون لفتح صفحة جديدة بين البلدين ينهار، وحدوث القطيعة لم يعد بعيداً على ما يبدو”.
ويفهم من البرقية أنّ الجزائر ترى أنّ المتورّط الأوّل في عملية تهريب بوراوي، والمدبّر لها، هو الجناح الموالي للمخزن المغربي على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، جناح يسعى إلى إحداث القطيعة بين الجزائر وفرنسا وتزعجه الفلسفة الجديدة التي تنبيني عليها العلاقة بينهما بالنظر إلى المكاسب الإستراتيجية والجيوسياسية التي تحقّقها الجزائر منه مغاربياً ومتوسّطياً وعلى مستوى الساحل.
في هذا السياق، لا يجب أن نغفل أنّ الحدثة جاءت مباشرة بعد الزيارة الأخيرة لقائد أركان الجيش الجزائري إلى فرنسا والتي يبدو أنّ مخرجاتها جاءت في صالح الجزائر وحساباتها الجيوسياسية مغاربياً وفي منطقة الساحل.
خطّة لضرب العلاقات الجزائرية التونسية
اللافت في تصريحات بوراوي في لقائها مع القناة العمومية الفرنسية الخامسة، يومين بعد وصولها إلى فرنسا، ذكرها علم الرئيس التونسي، قيس السعيد، بمجريات قضيتها وبأنّ ترحيلها إلى فرنسا “كان بموافقة منه”، وهو ما ينطبق حرفياً مع رواية صحيفة “لوموند” الفرنسية التي ذكرت علم الرئاسة التونسية بالقضية، وبأنّها هي التي أصدرت الأوامر لجهاز الشرطة التونسية بإخلاء سبيل بوراوي.
يجلّي الإمعان في هذه التصريحات المتطابقة معالم خطّة الجهة التي دبّرت عملية تهريب بوراوي: تقويض العلاقات الجزائرية-الفرنسية والجزائرية-التونسية في الوقت ذاته عبر تقديم الرئاسة التونسية في صورة المتواطئ مع فرنسا ضدّ الجزائر. ومعلوم بأنّ نجاح هذا المخطّط يعني تحقيق مصلحة المخزن الذي لم يتجرّع بعد هزائمه الدبلوماسية أمام الجزائر.
لكشف هذا، تعمّد وزير الاتصال الجزائري في معرض حوار له مع الجريدة الالكترونية “الجزائر الآن” التنويه بالعلاقات الجزائرية التونسية، والذي شدد على أنّها “علاقات متينة جدّاً، وزادت متانة خلال السنوات الثلاث الماضية، ولن تزعزعها شطحات وسائل إعلام فرنسية”.
وبقدر ما يكشف هذا التصريح إدراك الجزائر لما يحاك في الخفاء لتقويض علاقتها بتونس، فإنّ فيه أيضاً ردّ رسمي مبطّن “لمن يعنيه الأمر” على ذلك المخطّط وإحباطاً له في الوقت نفسه.
قضية دولة مع دولة
حين نقرأ ما كتب وقيل عن الحادثة في الإعلام المتأثر بالسردية الفرنسية، وعمّا أثارته من توتّر طال بآثاره العلاقات بين الجزائر، فرنسا وتونس، نلفي إيغالاً في شخصنة القضية وجنوحاً إلى مقاربتها على أنّها أزمة بين دولة وامرأة، لا بين دولة ودولة، وفي ذلك قصور وبعض سطحية.
لقد مالت أغلب التحليلات إلى القول بأنّ ردّ الفعل الجزائري بولغ فيه على نحو جعله متجاوزاً لما تستحقّه امرأة غير مؤثرة، لا هي صحافية ولا هي مناضلة، ولا تحمل أيّة صفة.
وإن كان هذا الرأي على صواب في التقليل من شأن أميرة بوراوي، فإنّ فيه خللاً في إيعاز الغضب الجزائري إلى مشكلة مع شخص بوراوي، في حين أنّ الصواب هو أنّ المشكل مع جناح متوغّل داخل المؤسسات السياسية والأمنية للدولة الفرنسية لم يتقبل منطق الندّية الذي تضعه الجزائر شرطاً في تعاملها مع فرنسا، وهو ما اتفق عليه تبون وماكرون الصيف الماضي.
ومن زاوية أخرى، فإنّ النزعة الاستقلالية التحرّرية في سياسة الجزائر الخارجية ومرافعتها من أجل فكاك من الارتهان والتبيعة لمستعمر، والتي باتت تلقى رواجاً وانتشاراً واسعاً في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، هو أمر لا يخدم هذا الجناح الذي لا يرى مستقبلاً لفرنسا إلا على أكتاف الأفارقة وأوطانهم.
أخيراً، لا يجب البتّة إغفال أنّ الصرامة في ردّ فعل الجزائر هي إلحاح منها وتذكير بأنّ المنهج الفرنسي القديم القائم على استقطاب مهاجرين ومزدوجي جنسية معروف ولاؤهم لفرنسا بتواطؤ من أطراف داخل الجزائر، ثمّ تمويلهم وتقديمهم كمعارضين جزائريين ينشطون في الخارج، واستخدامهم كأدوات للابتزاز وخوض الحروب الإعلامية ضدّ الجزائر، هو نهج مرفوض رفضاً مطلقاً مهما كانت الظروف، وبأنّ الجزائر لن تتوانى عن القطيعة مع فرنسا إن هي أصرّت على هذا النهج.
الميادين