ذكرت تقارير صحافية مختلفة، من بينها تقرير لصحيفة “الإسبانيول” المقربة من دوائر اتخاذ القرار في إسبانيا، أنّ المغرب وقّع مع الكيان الصهيوني على اتفاق لبناء قاعدةٍ عسكريةٍ في منطقة أَفْسُو التابعة ترابياً لقبيلة آيت بويحيي الريفية في إقليم الناظور شمال المملكة، قرب مطار “أَعَرْوِي” الدولي جنوب مدينة مليلية.
هذا النهج الجديد الَّذي مضى به المغرب، بحسب الصحيفة، أصبح مصدر قلق لمدريد، التي لا تنظر بعين الارتياح إلى عملية التحديث العسكري التي يقوم بها. وقد زاد من هذا القلق ما ذكرته بعض التقارير الصحافية التي قالت إنّ المغرب بصدد نصب وسائل دفاعٍ جويٍ إسرائيلية تدعى “باراك إم إكس” قرب مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين.
تمر العلاقات المغربية الإسبانية بأسوأ فتراتها بعد سماح سلطات مدريد لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي بالدخول إلى إسبانيا بجواز سفرٍ مزورٍ، بغرض تلقي العلاج، ما أغضب السلطات المغربية، ثُمَّ حفظ المدعي العام الإسباني في المحكمة الوطنية العليا الدعوى القضائية التي رفعتها ضده الجمعية الصحراوية للدفاع عن حقوق الإنسان، فضلاً عن سماح المغرب لعشرات الآلاف من المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء والمواطنين المغاربة، من بينهم أطفال قاصرون، باقتحام مدينة سبتة المحتلة، ما دفع إسبانيا إلى استصدار قرارٍ من البرلمان الأوروبي يدين فيه الإجراءات المغربية.
وفي إثر هذه الأزمة الدبلوماسيّة مع إسبانيا، أقصى المغرب الأخيرة خلال السنة الماضية من عملية العبور “مرحباً”، التي تهم الجالية المغربية خلال عطلة الصيف عندما تقوم بزيارة أقربائها وذويها، انطلاقاً من ميناءَيْ الجزيرة الخضراء باتجاه ميناء طنجة، وميناءي “ألميريا” و”موتريل” قرب مدينة مالقا باتجاه مدينتي الناظور والحسيمة، وتحويلها إلى ميناءي “بريست” في فرنسا وجنوى في إيطاليا.
الإجراء المغربي كبَّد الجارة الشمالية، باعتراف منها، خسائرَ مالية فادحة قُدِّرَتْ بملايين اليوروهات التي كانت تستفيد منها سنوياً، من خلال الفنادق والرسوم الجمركية وحركة الشحن والعَبَّارَات التي تنقل الجالية المغربية إلى الموانئ المغربية، ما ينعش الخزينة الإسبانية ويساهم في تنمية مناطق العبور نحو المغرب، من خلال توفير فرص العمل وإنعاش التجارة المحلية. كما أغلق المغرب الحدود مع المدينتين لوقف دخول البضائع المهربة التي كانت تدرّ على اقتصاد إسبانيا عائدات مالية تقدر بعشرات الملايين من اليوروهات شهرياً.
هذه ليست المرة الأولى التي تمر فيها العلاقات المغربية الإسبانية بأزمة، فقد عرفت العلاقات بينهما تأزماً وصل إلى حد المواجهة العسكرية في عهد الحزب الشعبي اليميني الحاكم، بزعامة رئيس الحكومة السابق خوصي ماريا أثنار. تعود فصول هذه الأزمة المرتبطة بجزيرة ليلى إلى 11 يوليو/تموز 2002، وهي أخطر أزمة في تاريخ العلاقات بين البلدين منذ الحقبة الاستعمارية. وقد كادت تفضي إلى مواجهة عسكرية بينهما.
في ذلك الوقت، نزلت قوات مغربية بحرية وبرية في الجزيرة التي لا تبعد سوى 250 متراً عن ساحل المغرب، و8 كيلومترات عن سبتة المحتلة، ورفعت العلم المغربي فيها، وذلك بهدف الاستعانة بموقعها الاستراتيجي لمراقبة الهجرة السرية وتهريب المخدرات، لكن الحكومة الإسبانية رأت في السلوك المغربي “غزواً” للجزيرة، وطالبت المغرب بسحب قواته منها، إلا أنَّه رفض.
وقد بلغ التوتر ذروته بين البلدين بعد أن أرسل المغرب قواته البحرية إلى الجزيرة، وأجبر بحرية الحرس المدني الإسباني على مغادرتها. في إثرها، قرّرت إسبانيا التدخل بقوة، وأرسلت فرقة من القوات الخاصة في إطار عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “روميو سيرا”، مدعومة بغواصة وفرقاطة بحرية ومقاتلات ومروحيات، إذ نزلت الفرقة في الجزيرة، وألقت القبض على الجنود المغاربة الذين جرى تسليمهم للسلطات المغربية بعد نقلهم إلى مدينة سبتة.
بعدها، قامت القوات الإسبانيّة بإنزال العلم المغربي ورفع العلم الإسباني بدلاً منه، وذلك في 18 تموز/يوليو، وظلت القوات الإسبانية مرابطة في الجزيرة ليومين، ثم انسحبت منها بعد وساطة أميركية وفرنسية قادها وزير الخارجية الأميركي الراحل كولن باول، لتعود الجزيرة خالية من القوات المغربية والإسبانية.
لذلك، لا تنظر إسبانيا بعين الارتياح إلى المسعى المغربي لإنشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية في الشمال، والتي ستكون مدعومة بوسائل دفاع جوي حديثة استوردها المغرب من الكيان الصهيوني لعدة أسباب، أهمها:
– وجود العديد من الملفات العالقة المعقدة بين البلدين، من بينها قضينا سبتة ومليلة المحتلتان، وبعض الجزر في الشمال، مثل جزيرتي النكور وبادس الموجودتين في إقليم الحسيمة، والجزر الجعفرية التي تحتلها إسبانيا.
– قضية ترسيم الحدود البحرية التي أقرها البرلمان المغربي بالإجماع في 22 كانون الثاني/يناير 2020، وحدَّدها في 200 ميل بحري في عرض الشواطئ المغربية، ما دفع السلطات الإسبانية إلى تسليم السفير المغربي في إسبانيا مذكرة احتجاج، باعتبار هذا العمل أحادي الجانب، وخصوصاً أن العديد من الحدود بين الجزر الخاضعة للاحتلال الإسباني والسواحل المغربية الجنوبية يزخر بالكثير من الثروات الطبيعية في عمق البحر، مثل التيلوريوم والكوبالت والباريوم والنيكل والرصاص والفاناديوم والليثيوم وغيره، علماً أنَّ باطن المحيط الأطلسي غني بالبترول والغاز وبموارد معدنية حيوية.
– تصريح وزير الشؤون الخارجية والجالية المغربية في الخارج، ناصر بوريطة، بأنَّ “مغرب اليوم ليس مغرب الأمس”، وهي رسالة واضحة لإسبانيا بأنَّ هناك تحولاً عميقا في المقاربة المغربية لإسبانيا.
على هذا الأساس، ترى إسبانيا أن إنشاء قاعدة عسكرية قرب مليلية يشكّل تهديداً لوجودها في الشمال المغربي، إذا ما وقعت مواجهة مسلَّحة مع المغرب، لكون الاتفاقية قد تسمح له باستعمال القاعدة، وهو ما سيخلّ بالتوازن العسكري الذي تفرضه مدريد على المغرب، وبالتالي سيضعف تأثيرها إقليمياً.
ولا يخلو وجود القاعدة الإسرائيلية في المغرب من أهمية بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، إذ سيمكّنه من امتلاك قواعد متقدمة في البحر الأبيض المتوسط وحماية مصالحه الاقتصادية، وكذلك سهولة الوصول إلى غرب أفريقيا جنوب الصحراء، عبر نقل عناصره الأمنية والعسكرية بذريعة محاربة الجماعات المسلحة الإرهابية إلى باقي دول غرب أفريقيا، لتنفيذ أجنداتها المعلنة وغير المعلنة، ولا سيَّما أن “إسرائيل” وقعت عدة اتفاقية أمنية مع العديد من الدول الأفريقية في عهد حكومة بنيامين نتنياهو.
في النهاية، نصل إلى استنتاج مفاده أنَّ وجود القاعدة أملته مصلحة الطرفين المغربي والإسرائيلي، فوجودها تهديد من الناحية الجيوسياسية لإسبانيا لإحداث توازن بينهما، ولا سيما أنَّ العقيدة العسكرية الإسبانية تعتبر المغرب عدواً لها، في حين يرى الكيان الصهيوني أنَّ وجود القاعدة سيسهّل عليه الوصول إلى أفريقيا انطلاقاً من المغرب، فهل ستعرف العلاقات الإسبانية المغربية مزيداً من التوترات في ضوء هذا المعطى الجديد؟ لننتظر ولنرَ.
الميادين