أشرت في مقال ” حماية الكيان وضمان استمراريته و تفوقه “المزعوم” مهمة أصيلة لأنظمة “سايكس بيكو”.. إلى ان الوضع الراهن يدعو للأسى فقطاعات واسعة من الشعوب العربية مغيبة و مسلوبة الإرادة و ينخرها فيروس السلبية أو التبعية للمستعمر ، لكن مع ذلك فإن الغالبية لا زالت بخير و فطرتها سليمة و تحمل جينات المقاومة ، لكن سياسات التفقير و التجويع و التضبيع و الاستحمار فعلت فعلها ، و لعل هذا ما يدفعنا للتأكيد على أن التغيير قادم و ان جينات المقاومة و التحرر ستنتصر ، و مصدر هذه الثقة قوله تعالى: ( لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ) ( فاطر -43) و قوله تعالى : (و كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون) (الأنعام-124)، فمكر الصهاينة و خبثهم و تحالفهم الشيطاني، مع بعض ممن ينتمون إلا بني جلدتنا، و بتوظيف لثروات هذه الأمة و مقدراتها ، لن تكون نتائجه إلا في صالح الأمة العربية و الإسلامية في القادم من السنوات…
-
عجز بنيوي:
و في نقاش عام مع أحد الزملاء الأفاضل حول حالة الإنحدار و عجز الشعوب العربية في تقديم الدعم و المؤازرة لغزة، و منع الغطرسة و الإجرام الصهيوني الذي إقترب من ختم سنة دموية ، ذهب زميلي في تحليله إلى أن العجز بنيوي و مكون أساسي في جينات الشعوب المسلمة التي تنتمي إلى “السنة و الجماعة”، في مقابل حركية و دينامية تطبع سلوك المسلمين “الشيعة ” ..
-
دور محوري
غير أن هذا التحليل و بعيدا عن هذه التقسيمات “السنة -الشيعة” لا يعبر عن حقيقة الوضع القائم، فالسنة -بنظري- لعبت دورا محوريا في مقاومة الكيان الصهيوني و التدخلات الأجنبية في المنطقة في مراحل تاريخية مختلفة، ومن ذلك مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق و الدور المحوري الذي لعبته الفلوجة في كسر الاحتلال ، و نفس الأمر تكرر في أفغانستان و تحديدا حركة طالبان و التي لا تنتمي بالضرورة إلى “الشيعة”، و في فلسطين حركة المقاومة في غزة و الضفة و خاصة حركة حماس و الجهاد الإسلامي و غيرها لا تنتمي للشيعة و إنما للسنة ..
-
كيان سرطاني:
فالمشكلة الأساسية و الجوهرية هي تقسيم الأمة إلى سنة و شيعة، فهذه الفتنة أشد من القنبلة النووية التي ضربت بها هيروشيما و نكازاكي، فالعالم الإسلامي تعرض لموجات متتالية من التدخل الأجنبي، و أخطرها زرع هذا الكيان السرطاني “إسرائيل ” في قلب العالم الإسلامي ، و مقاومة هذا الجسم الغريب تم عبر المقاومة الإسلامية و على رأسها الإخوان المسلمون الذين كان لهم دور بالغ الأهمية في التصدي لهذا الكيان منذ لحظة النشأة و اليوم صناع طوفان الأقصى هم إمتداد لهذا الفكر المقاوم ..
-
فصل الدين عن السياسة:
فالمشلكة التي يعيشها العالم الإسلام ليس مردها الدين، بل على العكس المنطقة تعيش من عقود فصل واضح للدين عن السياسة و الدين الذي أعنيه هو صحيح الدين بعيدا عن شطحات علماء السلطان و الفهم المنحرف لعلاقة الدين في السياسة ، فالمنطقة منذ أزيد من قرن على الأقل تعيش على برنامج أساسي، وهو كسر شوكة كل فكر أو تنظيم يحاول أن يقيم الجسور بين السياسة و الدين و محاولة أسلمة المجتمع ، فالدين شكل باستمرار وسيلة للتغير الاجتماعي والسياسي والثقافي، فعبر التاريخ كان للقيم الدينية دور محوري في تشكل الحركات الاجتماعية المناهضة للظلم الاجتماعي و الإستبداد السياسي، فالفئات الاجتماعية المضطهدة أو المهمشة في المجتمع غالبا ما تعتمد في مقاومتها و مناهضتها لقوى التسلط والطغيان على الفكرة الدينية ، لعل هذا الفهم هو الذي نجده في قصة مناهضة إبراهيم للنمرود وموسى لفرعون و هامان والنبي محمد عليه الصلاة و السلام لمشركي قريش ، و التهمة المشتركة الموجهة لكل هؤلاء المصلحين و المناهضين للظلم و الطغيان تأليب العبيد على الطغاة و المستبدين و مدعي الألوهية .
-
نواة الثورات التحريرية:
و عليه، فإن الدين شكل عبر التاريخ أداة محورية في تحرير الشعوب ، و من ذلك ، تحرير اليهود من قبضة فرعون بقيادة موسى، وخروج إبراهيم وأهله من شمال العراق إلى الحجاز، هربًا من عبدة الأصنام، وتأسيس قواعد لبيت جديد من بيوت الله ليُذكر فيه اسمه بدلًا من عبادة الأصنام، كان وسيلة لتجميع القبائل المتفرقة المتناحرة مثل القبائل العربية، وتأليف القلوب، مثل المؤاخاة بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار: ( لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)..كما أنه وسيلة للتحرر الثقافي..
-
إدعاء باطل :
فكل ادعاء بأن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين هو إدعاء باطل و ملغوم ، و الغاية من عزل الدين عن السياسة تأمين و حماية سلطة المتسلط، من كل معارضة تستمد بذورها من الدين ، وعزل السياسة عن الدين يطلق يد النظام السياسي في فعل ما يشاء و ما يخدم مصلحة الأوليغارشية المسيطرة على السلطة و مفاتيحها المختلفة السياسية دون مراعاة لشريعة أو قانون، فهو قول سياسي أيضًا على نحو سلبي ضد الصلة الطبيعية بين الدين والسياسة، فالدين وسيلة لتحرير البشر، والسياسة أداة لتنفيذ شرائعه، لذلك فإن العلمانية المعاصرة تعد فعل ديني سياسي في آنٍ واحد على نحو سلبي كذلك، فالسياسي الذي يريد أن ينفرد بالحكم يحاول استغلال هذا الفصل المصطنع لقمع قطاعات واسعة تشكل تهديدا لإستبداده و طغيانه و تفرده بالسلطة و المجتمع..
-
الاستثمار في الجهل:
لذلك، فإن سياسة التجهيل و التضبيع تصب في إتجاه دعم الاستبداد و الاحتلال ، عبر توسيع دائرة تأثير فقهاء السلطان، فالتخلف والجهل يوفران بيئة ملائمة لانتعاش مثل هؤلاء الذين يسمون زورا بالعلماء و الفقهاء ، و هؤلاء يستغلون نقص الوعي والفهم لدى الناس ، في بيئات تسودها الامية وضعف التعليم .و في هذا الصدد تحضرني مقولة لابن رشد تجارة الأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل ، إذا أردت ان تتحكم بجاهل فعليك ان تغلف كل باطل بغلاف ديني )..
-
إستغلال ملغوم:
فالدين “المحرف و المعدل” تم استخدامه كأحد العوامل الأساسية التي ساعدت النظم المستبدة في توطيد دعائم طغيانها، كما أستغل في دعم الاحتلال الأجنبي للعالم و الإسلامي و في مقاومته أيضا ، فمثلا عندما تم غزو أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي تم استغلال الخطاب الديني و تفعيل فريضة الجهاد بدعم من امريكا التي شجعت النظم العربية و الإسلامية على تحفيز “المجاهدين” لمقاومة المحتل الأحمر الكافر، و بعد غزو صدام للكويت تم استخدام الدين لتبرير التدخل الأجنبي حيث استخدمت بعض الخطابات الدينية لتبرير التدخل الأمريكي بغرض تحرير الكويت و توطين قواعد عسكرية بالجزيرة لحماية ملكيات الخليج و نفط الخليج ..
-
المدخلية و الاحتلال:
و لتبرير تواجد قوات الاحتلال بالجزيرة العربية ، ألف ” ربيع بن هادي المدخلي” شيخ طائفة “المدخلية” كتابا يبرّر فيه الاستعانة بالأمريكان ضد العراق المسلم، عنوانه “صدّ عدوان الملحدين، وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين”، و قد تم وصف صدّام ومن معه بـ”الملحدين”، ووصف الأمريكان ومن معه بـ ”غير المسلمين” ولم يصفهم بالكفار ولا المشركين..و كان ذلك أواخر سبتمبر من العام 1990.. هذا الكتاب يعد بنظر البعض “القول الفصل” في نازلة الاستعانة بالأجنبي الغير مسلم لمواجهة المسلم، كما تم توظيف هذه الفتوى الشاذة و القراءة المنحرفة ، للتنكيل بالعلماء الذين خالفوا فيها وحذّروا من المخطّط الأمريكيّ.
-
مخطط أسود :
و منذ هذه اللحظة المفصلية “حرب الخليج” وضع الحلف الصهيو-صليبي مخطط أسود لشيطنة الإسلام و الفكر المقاوم الذي يوجه عداءه و أمواله و رصاصه و دماءه للمحتل الأجنبي ، و لتنزيل هذه المخطط الشيطاني تم تفريخ جماعات متطرفة هنا وهناك، وجهت أسلحتها إلى رقاب المسلمين بدرجة أساسية ، و تم تقديم الدعم المالي و الإعلامي الغير محدود لهذه الحركات المتطرفة و التي غايتها شيطنة الإسلام و تحريف تعاليمه في العقول بعدما عجزت عن تحريف النصوص ..
-
دعم لا محدود للفكر المتطرف:
و غاية هذا المخطط تشويه مفهوم الجهاد و تخويف المسلمين منه، و مهاجمة و شيطنة الفكر الوسطي المعتدل الذي يستمد روحه و فكره من صحيح الدين، في مقابل دعم الفكر المتطرف و تحديدا المدخلية لتشغل المسلمين بعضهم ببعض، عن مصيبة وجود الأمريكان في بلاد المسلمين.. حتّى وجدت أمريكا المبررات لاحتلال أفغانستان بعد أحداث الـ11 سبتمبر 2001م، وكانت طائراتها تنطلق من بلاد المسلمين لقتل المسلمين في أفغانستان. وكانت الطائفة المدخلية تعمل عملها لشغل المسلمين عن هذه المصيبة، حيث كانت تُلهي أتباعها بتمحيص عقيدة الأفغان المسلمين الذين اتهمتهم بأنهم صوفية قبورية… وأنست أتباعها بأن من يقتل الأفغان هم الأمريكان الصليبيون و أن هؤلاء القتلى هم مسلمون و البلاد التي تم إحتلالها أرض إسلامية، و أن تحريرها فرض عين على كل مسلم و مسلمة ..ثم تم احتلال العراق في العام 2003م من بلاد المسلمين.. وإتجهت جهود الطائفة المدخلية إلى إلهاء المسلمين بالطعن في العلماء والدعاة و المصلحين، و تجريم المقاومة و تكفيرها ونشر كتابات وتسجيلات تجعل “صدام حسين” و من دعمه شيطان رجيم..
-
الطعن في المقاومة الفلسطينية :
و ما نراه ونسمعه الآن من طعن في المقاومة الفلسطينية و الهجوم العنيف و الملغوم على حركة حماس و غيرها ، ليس وليد طوفان 7 أكتوبر 2023 ، و إنما هو عمل ممتد و مخطط له من قبل أيدي صهيو -صليبة و في أقبية المخابرات و مخازن الفكر ..التي تدرك جيدا أن الإسلام هو الخطر الذي يهدد قلاع الطغيان بكل أشكاله ..
وقد كان لجهود المداخلة دور بارز في الجهود الرسمية وغير الرسمية التي طالت جماعة الإخوان المسلمين في مصر و غيرها من التنظيمات التي تحمل نفس الفكر ..
-
إتهامات باطلة:
لذلك، فإن الهجوم على حماس يستند إلى حجج واهية و إتهامات باطلة، ينبغي تفنيذها و دحضها ، و من ذلك إتهام حماس بالخروج عن ولي الأمر في فلسطين، فمن هو ولي الأمر في فلسطين المحتلة ؟ هل قوات الاحتلال و على رأسها مجرم الحرب نتنياهو؟ أم سلطة أوسلو و التي ترى في التنسيق الأمني مع كيان الإجرام و الإبادة ، قضية “مقدسة” و مهمة جليلة ؟
ففلسطين أرض محتلة و ينبغي تحريرها بكل الوسائل الممكنة و من دلك المقاومة المسلحة، و هذا أمر تؤكده جميع الشرائع الوضعية و السماوية ..
كما يتم إتهام حماس بموالاة إيران و تخدم المشروع الشيعيّ، و في ذلك تجني و تشويه للحقائق ، فحركة حماس مضطرة بقبول الدعم الإيراني ولم تختر ذلك. فلو وجدت دعما من قبل النظم العربية لما لجأت للخيار الصعب ، و كما تقول القاعدة الأولية الضرورات تبيح المحظورات و مقاومة المحتل و رفع الطغيان ضرورة ملحة ..
-
تقاطع مصالح :
و موقف حماس من إيران يمكن فهمه بالعودة إلى مؤسس الحركة
الشيخ أحمد ياسين –رحمه الله- فبعدما نجحت الثورة الإيرانية سنة 1979م، قال لتلامذته: “يا شباب. هؤلاء شيعة” وعندما سئل سنة 1989م عن حزب الله اللبناني، إن كان ينطبق عليه قول الله تعالى: ((أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون))، أجاب بأنّ الآية لا تنطبق على هذا الحزب. لكن حين وافق رحمه الله على التواصل مع إيران، قال وضوح: “نحن والشيعة تقاطع مصالح لا تحالف”، وهكذا هو موقف قادة المقاومة بعد أحمد ياسين وإن اختلفت عباراتهم، يتعاملون مع إيران سياسيا، لكنهم لا يوافقونها بالضرورة على مذهبها.و هذا الأمر من السهل تأكيده من خلال تحليل خطابات و كتابات قادة حماس ..و من يرى أن حماس مخطئة في تحالفها مع إيران و قبولها للدعم الإيراني فما عليه إلا أن يقدم البديل و يدعم المقاومة بالمال و الغداء و السلاح ..
-
حرب دينية :