بعد إعلان استقلال ليبيا في عام 1951، تتابعت هجرات الإيطاليين منها إلى وطنهم الأم، حتى تولى معمر القذافي مقاليد السلطة في البلاد وأمر بطرد ما تبقى منهم (كان عددهم حوالي 20 ألف نسمة).
وفي صيف عام 2008، وقع القذافي مع رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو بيرلوسكوني على معاهدة تعاون تاريخية في بنغازي، تعهدت إيطاليا بموجبها بتقديم تعويضات قيمتها 5 مليارات دولار عن الأضرار التي لحقت بليبيا إبان حقبة الاستعمار الإيطالي، التي دامت أكثر من 3 عقود. كما قدم بيرلوسكوني اعتذار بلاده عنها.
ومن جانبها، فقد التزمت ليبيا باتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية القادمة من سواحلها، وتعزيز الاستثمارات في الشركات الإيطالية.
هذا ما كان في الماضي وفي عهد دكتاتور ليبيا الهالك، ولكن ما إن لاحت في الفترة الأخيرة بشائر استقرار الأوضاع في المستعمرة الإيطالية السابقة، بعد عقد من الفوضى والدمار والحروب الأهلية، حتى انتصبت قرون استشعار الدول الكبرى، وراحت تعد عدتها وترسم خططها من أجل الاستحواذ على نصيبها في كعكة إعادة الإعمار والاستثمار في أرض المختار.
وبالعودة إلى معاهدة التعاون التاريخية الموقعة في بنغازي بين إيطاليا بيرلوسكوني وليبيا القذافي، نجد أن ثمة من يستدعيها للبناء عليها بهدف إعادة إطلاق العلاقات بين روما وطرابلس، حيث صرح مانليو دي ستيفانو، وكيل وزارة الخارجية الإيطالية ورئيس الجانب الإيطالي للجنة الاقتصادية المشتركة الإيطالية-الليبية، عقب لقائه بوزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش خلال زيارتها لإيطاليا مطلع الأسبوع الجاري، بأن “السلطات الليبية ترغب في إعادة تفعيل الاتفاقيات التي تضمنتها معاهدة الصداقة والشراكة الموقعة من قبل بيرلوسكوني والقذافي في عام 2008.
ومن المنتظر أن يكون للشركات الإيطالية دور محوري، في مستقبل قريب تنعم فيه ليبيا بالسلام، في استكمال المشروعات التي بدأ العمل فيها بالفعل (من الطريق الساحلي السريع بطول أكثر من 1700 كيلومتر إلى مطار طرابلس) وفي مشروعات مستقبلية خاصة بنظم المعلومات والطاقة والشبكات والشركات الصغيرة لشباب رجال الأعمال” وذلك قبل أسابيع قليلة من وصول رئيس الحكومة الليبية الجديد عبد الحميد دبيبة في أول زيارة رسمية له إلى روما.
وأضاف دي ستيفانو: “لقد لمسنا اهتماماً ليبياً بمنح الأفضلية للشركات الإيطالية التي لن تُضطر لمواجهة منافسة مثيلاتها التركية أو الروسية. وعلى سبيل المثال، فإن مذكرة التفاهم الموقعة مع تركيا لن يكون لها أي تأثير على العقد الذي فاز به كونسورتيوم (إينياس) الإيطالي، وقيمته 79 مليون دولار، الخاص بمطار طرابلس والذي سيظل سارياً على أية حال”.
وفي سياق متصل، علقت صحيفة “إل مانيفيستو”، لسان حال الحزب الشيوعي الإيطالي، على التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي خلال زيارته يوم 6 إبريل/نيسان المنصرم إلى طرابلس ولقائه بنظيره الليبي دبيبة، والتي قال فيها “نحن بصدد مرحلة فريدة لإعادة بناء علاقة صداقة قديمة وجوار لم تنقطع قط”، بقولها إن “حديث دراغي في طرابلس لا يدع مجالاً للشك في أن إيطاليا ترغب في نيل نصيب الأسد في عملية إعادة إعمار ليبيا (الجديدة) وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، في إشارة إلى معاهدة 2008 بين بيرلوسكوني والقذافي، هذا الأخير الذي اُكتشفت عداوته فقط بعد 3 سنوات، لدرجة إقصائه بقذائف الناتو”.
وذكرت صحيفة “فورميكي” الإلكترونية الإيطالية، في تقرير حمل عنوان “حذار يا إيطاليا! هكذا تستهدف تركيا والمملكة المتحدة ثروات ليبيا”، أن رئيس الحكومة الليبية المؤقتة عبد الحميد دبيبة يشهد، انطلاقاً من ضرورة إعادة فتح المحابس الاقتصادية من أجل إطلاق عملية التنمية في البلاد، مباراة معقدة ماثلة أمام ناظريه تدور حول الديناميات البرلمانية، من أجل إقرار أول موازنة موحدة في البلاد منذ 10 سنوات، علاوة على المسائل الخاصة بحوكمة المؤسسات المالية الكبرى والإفراج عن كنز الأصول المجمدة داخل صندوق الثروة السيادي الليبي.
حول هذا الأخير، الذي تأسس في عام 2006 بهدف استثمار عوائد النفط، يمكننا تمييز نوعين من التحركات: الأول يخص المملكة المتحدة، التي كانت عضواً في التحالف العسكري على ليبيا القذافي عام 2011، والتي انطفأ فيما بعد حماسها واهتمامها بشكل ملحوظ بديناميات البحر المتوسط، الذي تشكل ليبيا إحدى نقاطه الساخنة منذ سنوات.
وأضافت الصحيفة أن لندن عاودت نشاطها مجدداً في الأراضي الليبية، وخاصة على الصعيد الدبلوماسي، وعلى سبيل المثال، نجد أن وزير الدفاع بن والاس قد شن هجوماً عنيفاً ضد الأنشطة الروسية في ليبيا، التي اعتبرها، مع مقاولي جماعة فاغنر، مصدر الخطر الرئيس على مسار عملية الاستقرار في البلاد.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى جهود السفارة البريطانية (التي تمارس عملها من خارج ليبيا) في الاتصالات والمهام الدبلوماسية الموجهة نحو القوة الناعمة- حتى وفاة الأمير فيليب استُغلت في التذكير بعلاقته بالملك إدريس- في حين دأب السفير بن سيمبسون على الالتقاء بالفنانين والنشطاء وزيارة المدارس والاجتماع بأعضاء في السلطة التنفيذية الجديدة، وذلك بالتزامن مع مبادرات التعاون التي أطلقتها وزارة الخارجية مع صندوق الثروة السيادي الليبي.
بدوره، يمضي الصندوق الليبي قدماً في مسار مواز داخل المنتدى الدولي لصناديق الثروة السيادية، ومقره لندن، والذي يتبنى (مبادئ سانتياغو) الخاصة بالشفافية والحوكمة الحميدة والمسؤولية المحاسبية وتقييم الاستثمارات. وفي الوقت ذاته، يقبل مساعدة وزارة الخارجية كمنصة إطلاق نحو الظهور من جديد على الساحة الدولية.
وتابعت الصحيفة أن تركيا أيضاً تسعى ليكون لها دور في هذا الهدف الأخير، وهذا هو النوع الثاني من الديناميات الدائرة حول الكنز الليبي. وهنا نشير إلى مراسم الاستقبال الاستعراضية التي شهدتها زيارة دبيبة الأخيرة إلى إسطنبول، في رسالة مفادها أن أنقرة، التي دافعت عن الحكومة السابقة المعترف بها أممياً في حرب كان الهدف منها إطاحتها، أخذت على عاتقها التزاما وتدخلا عجزت أي دولة غربية أخرى عن الاضطلاع بهما، ومن ثم فهي تطلب الآن نصيبها من الأرباح.
والحديث هنا عن عملية إعادة البناء، مع ما يرتبط بها من عقود ممكنة وأخرى من الممكن إعادة تفعيلها، علاوة على الخطة المالية، ما يمثل ثروة لبلد يُظهر قوة أكبر بكثير من قدراته الاقتصادية. يريد الأتراك إذاً أن يكونوا جزءا من اللعبة، أيضاً أو على وجه الخصوص، من خلال أداء دور داخل حوكمة المؤسسات الليبية، مثل صندوق الثروة السيادي الليبي أو البنك المركزي أو المؤسسات الحكومية العديدة، وعلى رأسها مؤسسة النفط الوطنية، وذلك لأنه عبر التعيينات- في هذه المؤسسات- تمر التوجهات السياسية وتتحرك المصالح.
وأوضحت الصحيفة أن التنافس بين المملكة المتحدة وتركيا في هذه المنطقة من العالم مسألة تاريخية، وتساءلت: هل نحن بصدد تجددها حول ليبيا؟ وردت بأن مرحلة الاستقرار الاسمي التي انطلقت في البلاد تكتنفها سلسلة من المسائل التي ما زالت مفتوحة، وإذا كان لأنقرة تأثير على العديد من اللاعبين الليبيين، فإن لندن تملك ورقة أخرى رابحة تتمثل في أن محاكمها تنظر في الكثير من القضايا التي يتداخل فيها صندوق الثروة السيادي الليبي، كما أنها عضو دائم في مجلس الأمن الذي سيكون عليه واجب رفع تلك العقوبات.
وبناء على ذلك، فإنه من الضروري تخفيف الإجراءات العقابية، التي فرضتها الأمم المتحدة من أجل إعادة تفعيل أنشطة الصندوق الليبي الذي تجمدت أصوله بفعلها، علاوة على وجود أكثر من 12 مليار دولار مجمدة في حسابه نتيجة لعجزه عن تنفيذ أية استثمارات بعد عام 2011 بسبب العقوبات.
وأخيراً، أشارت الصحيفة إلى أن التفكير يدور حالياً حول إيجاد حلول ناجعة، لأن مسار العملية من الممكن أن يكون تدريجياً، وثمة نقاش بشأن إمكانية إسناد عملية إدارة تفعيل الأصول المجمدة، على الأقل ما يتعلق بالسيولة الحالية، إلى أمين أو مجموعة من أمناء الاستثمار.
وختمت بقولها إن المباراة تدور حالياً حول تخمين هوية هذا الوصي، الذي سيقبض بيديه على محفظة متخمة تضم استثمارات ومصالح حزمة من الدول، من بينها أيضاً إيطاليا.
نحن إذاً بصدد سيناريو جديد/قديم لمبدأ المكسب-المكسب أو الربح للجميع، وذلك من منطلق أن عملية إعادة الإعمار والاستثمار في ليبيا (الجديدة) سوف تعود بالنفع عليها، وربما عوضتها عن بعض ما عانته من انقسامات وحروب أهلية ودمار أتت على الأخضر واليابس في البلاد خلال عقد من الزمان، كان الرابح خلاله قوى غذت هذا الوضع المأساوي، تحركها دوافع سياسية دعماً لهذا الفصيل أو ذاك، أو اقتصادية (عبر مبيعات السلاح التي أتخمت خزائنها بملايين الدولارات). تلك قوى تطل علينا بوجهها السافر الآن مع بداية ظهور طاقة نور في نهاية النفق المظلم الذي عايشته البلاد، من أجل اقتناص نصيبها من الكعكة والربح من جديد.
العربي الجديد