جهود حثيثة بذلتها دولة الجزائر للمّ شمل الفصائل الفلسطينية المنقسمة، تكللت بتوقيع تفاهمات “إعلان الجزائر” بين سائر الفصائل، وعلى رأسها طرفا الانقسام؛ فتح وحماس، لكنها لم تلق الترحيب المنتظر لمثل خطوة كهذه بين الشعب الفلسطيني.
إلا أنّه كما يقول المثل “الشيطان يكمن في التفاصيل”، حيث لا تنكر أية حركة فلسطينية المبادئ العريضة لإعلان الجزائر وما سبقها من تفاهمات مضنية في القاهرة وغيرها من العواصم العربية والإقليمية، لكنّ المشكلة تكمن في التفاصيل التي تترجم العناوين العريضة، وهي التي كانت سبباً في إخفاق جهود المصالحة على مدار 15 عاماً.
وأول هذه التفاصيل غياب الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تطبق ما ورد في اتفاق الجزائر من تفاهمات عامة، لتكون الأطراف الفلسطينية فاعلةً في مواجهة التحديات التي تطرأ أمام التطبيق العملي لإعلان الجزائر. ومن أبرز التحديات الموقف الإسرائيلي سواء أكان من عقد الانتخابات العامة في القدس الشرقية أم غيرها من القضايا، ما يعني أنّه حال اتخاذ حكومة فلسطين التي تتبع حركة فتح لقرار ما سيتم ترجمته على أنّه تنصل من إعلان الجزائر، بينما لو كانت هناك حكومة وحدة وطنية حقيقية، لكان للأمر تفسير آخر.
فضلاً عن غياب العديد من القضايا المهمة عن إعلان الجزائر، والتي كانت أساسيةً في الاتفاقيات السابقة، إلى جانب ضعف تمثيل الفصائل الكبرى في المفاوضات والإعلان الرسمي مقارنةً بجولات تفاوض سابقة.
إعلان الجزائر
وفي 13 من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، أُعلن في العاصمة الجزائرية، عن نص الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية من أجل لمّ الشمل وتحقيق المصالحة، برعاية الرئاسة الجزائرية، بعد مفاوضات امتدت من مطلع العام الجاري حتى اللحظات الأخيرة للإعلان عن الاتفاق، الذي حمل اسم “إعلان الجزائر”.
وجاء الإعلان في (9) بنود، تضمنت؛ التأكيد على أهمية الوحدة الوطنية كأساس للصمود والتصدي ومقاومة الاحتلال، والشراكة عبر الانتخابات، واتخاذ الخطوات العملية لتحقيق المصالحة الوطنية عبر إنهاء الانقسام، وتعزيز وتطوير دور منظمة التحرير الفلسطينية، وانتخابات المجلس الوطني، وتوحيد المؤسسات الوطنية، وتفعيل آلية الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية لمتابعة إنهاء الانقسام، وأخيراً استحداث فريق متابعة جزائري عربي لمتابعة خطوات إنهاء الانقسام.
وما حاز الإجماع عليه بخصوص الإعلان هو التقدير الفلسطيني الرسمي والشعبي للدور الجزائري لرأب الصدع الوطني، لكن لم يرق مضمون الإعلان لمعظم المتابعين. ويقول عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فتحي كليب: “شكل إعلان الجزائر مساراً تراجعياً عن جميع الاتفاقات والتفاهمات السابقة؛ بإسقاطه العديد من العناوين”. وأضاف لـ”حفريات”: “تؤكد تجربة السنوات الماضية أنّ ما يحتاجه الشعب الفلسطيني هو آليات تنفيذية تعمل على تطبيق ما تم التوافق بشأنه في عديد الاتفاقات السابقة، ولهذا إعلان الجزائر بصيغته الراهنة لا يحمل ضمانات كافية لإجبار الجميع على تطبيق ما ورد فيه، بغض النظر عن نوايا هذا وذاك وحدود المسؤولية لكل طرف”.
ومن جانبه، قال القيادي في حركة فتح وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أيمن الرقب: “تجربة جولات المصالحة الفلسطينية تجعلني غير متفائل؛ لأنّ الارتباطات الإقليمية والدولية لبعض الفصائل قد تدمر كل ما كُتب”. وتابع لـ”حفريات”: “مقياس التنفيذ الحقيقي لأي اتفاق هو البدء في إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في الخارج في المرحلة الأولى، حتى التمكن من استكمال أعضاء المجلس في الداخل، عندما توضع الآلية المناسبة لتجاوز معوقات الاحتلال، وبهذا سيكون لدينا مجلس وطني منتخب لأول مرة منذ التأسيس عام 1964”.
وفي الموضوع ذاته، قال الباحث السياسي الفلسطيني، حسين جمال: “أعتقد أن هناك اختلافاً سلبياً؛ كون تفاهمات الجزائر وضعت فقط خطوطاً عريضة مفتوحة بدون اللجوء إلى آليات تنفيذ واضحة بجداول زمنية، وهذه نقطة مهمة عن الجولات السابقة التي كانت تجري في مصر”. وأشار إلى أنّ الجهد الجزائري فيه نوع من أنواع الاستعداد للقمة العربية التي تستضيفها، وأنّه تم استقبال الاتفاق “بموجة تشاؤمية؛ كوّنه عبارة عن إعادة تكرار لبعض الخطوط العريضة لاتفاق عام 2011 في القاهرة وغيره”.
غياب حكومة الوحدة
وبخلاف الاتفاقات الفلسطينية السابقة مثل اتفاق القاهرة لعام 2011، والاجتماعات التالية لدفع تنفيذه في القاهرة والدوحة، واتفاق الشاطئ لعام 2014، لم يشر إعلان الجزائر إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، تتولى تنفيذ التفاهمات المُتفق عليها. عدا عن ذلك لم يشمل الإعلان أية إشارة إلى مواعيد الانتخابات، سوى تحديد مدة زمنية تُقدر بعام لإجرائها.
ويقول أستاذ العلوم السياسية، أيمن الرقب: “كان يجب تشكيل حكومة وحدة وطنية للإشراف على الانتخابات، ولكن ربما تم استبعاد ذلك لأنّ فرص تشكيلها معدومة، في ظل رفض فصائل الاعتراف بالاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها السلطة، ومنها الاعتراف بإسرائيل”. واقترح الرقب تشكيل “حكومة تكنوقراط وليس حكومة سياسية من الفصائل الفلسطينية، تكون لها مهام محددة هي الإعداد والإشراف على الانتخابات، التي تعتبر مرحلة لإنهاء الانقسام، يُبنى عليها نظام سياسي جديد”.
وفي السياق ذاته، أوضح عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فتحي كليب، أنّ إسقاط الإشارة إلى حكومة الوحدة الوطنية التي يجب أن تتولى الإشراف على تطبيق بنود الاتفاق الحالي وما سبق، “سيعطي الذريعة للبعض لعدم تحمل مسؤولياته في تذليل العقبات التي تعترض سبل إنجاز الوحدة الوطنية، وفي مقدمتها تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي ومخرجات اجتماع الأمناء العامين، والمسائل الداخلية”.
ولفت إلى غياب قضايا مهمة عن إعلان الجزائر، ومنها: “إسقاط أهداف النضال الوطني في المرحلة الراهنة، وإسقاط مرجعية الإعلان وآليات تطبيقه، كما تحددت في عديد الاتفاقات التي وقعت منذ أكثر من 17 عاماً، واستغرق الوصول اليها أشهراً وسنوات”.
وبحسبه، كان يجب الإشارة إلى المرجعيات التالية في الاتفاق، مثلما حدث في كل اتفاق سابق، ومنها؛ وثيقة الوفاق الوطني (2006)، وبياني حكومتي إسماعيل هنية الأول والثاني عامي (2006 – 2007)، ومخرجات لقاء الأمناء العامين (2020)، وغيرهم.
وكان اتفاق القاهرة بين حركتي فتح وحماس في 2012، نصّ على تشكيل حكومة جديدة بالتزامن مع عمل لجنة الانتخابات، وتُحدد مدة عملها بفترة لا تزيد عن 6 أشهر لتنفيذ المهام المتفق عليها بما في ذلك. وفي حال عدم إجراء الانتخابات في الموعد المتفق عليه نتيجة أي سبب خارج عن إرادة الأطراف، يلتقي الطرفان لبحث إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة برئاسة شخصية مستقلة يتم التوافق عليها.
غياب آليات التنفيذ
وواجه اتفاق القاهرة لعام 2021 بشأن الدفع نحو الانتخابات، والتي حُددت وفق مواعيد متتابعة، بعد تراجع حماس عن مطلبها بتزامن انتخابات المجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة الإخفاق، رغم بنائه على المرجعيات السابقة للمحادثات الفلسطينية الداخلية.
وحينها أعلنت السلطة الفلسطينية عدم إجراء الانتخابات دون القدس الشرقية، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً ولم يتغير شيء بخصوصه اليوم، في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على القدس والتوسع في الاستيطان.
ويرى الباحث السياسي، حسين جمال، أنّ كلاً من فتح وحماس يتبادلان اللوم في عدم تنظيم الانتخابات التشريعية، وأكد على أنّ “قيادة منظمة التحرير لن تذهب بإتجاه انتخابات تشريعية ورئاسية قبل حصولها على موافقة الاحتلال على إجراء الانتخابات في القدس، على غرار الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2006 والانتخابات الرئاسية في 2005، وفق بروتوكول أوسلو، الذي يعتبر سكان القدس الشرقية جزءاً لا يتجزأ من سكان الضفة الغربية”.
وأفاد بأنّ السلطة ومنظمة التحرير لن تقبلا بإجراء انتخابات دون سكان القدس “باعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنّ عدم إجراء انتخابات في القدس يعني التسليم بأنّ القدس الشرقية باتت جزءاً من إسرائيل”.
ومن جانبه، لفت القيادي بحركة فتح، أيمن الرقب إلى أنّ قرار الجزائر بتحمل رواتب موظفي قطاع غزة التابعين لحماس هو إنجاز كبير، وحلّ لمسألة كانت تعيق المصالحة، ولكنّها لن تُحل الأزمة بشكل كامل.
ومن ضمن الآليات الغائبة عن إعلان الجزائر، ما يتعلق بتوحيد المؤسسات الفلسطينية، وخصوصاً الأمنية، وحول ذلك قال الباحث حسين جمال: “توحيد المؤسسات المدنية أمر أيسر من الأمنية؛ فالأولى تشهد حالة تشاركية بين الضفة والقطاع، وأما الأمنية فتحتاج إلى تنازلات من حماس وحالة تشاركية أكبر من السلطة”. وكان اتفاق القاهرة لعام 2011 أشار بشكل مفصل إلى الجوانب الأمنية، بين القوات الشرطية في القطاع والضفة، وبقية الأجهزة الأمنية مثل المخابرات العامة، دون التطرق إلى الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب القسام.
وفي مسألة سلاح المقاومة، فلن تقبل الفصائل الفلسطينية بأي حديث يمس سلاحها وحقها في المقاومة، وهي قضية يتطلب بحثها ضمن أهداف النضال، التي يجب الاتفاق عليها لتوحيد الفعل الفلسطيني، نظراً لاختلاف الفصائل خصوصاً فتح وحماس والجهاد في رؤيتهم للنضال الوطني.
وارتباطاً بالانتخابات يتناول متابعون مسألة الشعبية بين حركتي فتح وحماس، ويروج البعض لزيادة شعبية حماس على فتح، وأنّ ذلك السبب لعدم تنظيم السلطة للانتخابات العامة. ويرفض الباحث السياسي الفلسطيني، حسين جمال، ذلك الطرح، ويقول: “تقدمت فتح في أغلب استطلاعات الرأي منذ بداية العام 2021، وحصدت معظم نتائج الانتخابات المحلية والطلابية الأخيرة، ولا خوف على شعبية فتح أو حماس، وما يتردد عن تراجع شعبية فتح ليس إلا من باب المناكفات السياسية”.
ومن زاوية أخرى، يضع العديد من المراقبين الفلسطينيين توقيع “إعلان الجزائر” ضمن سياق الاستعداد للقمة العربية التي تستضيفها العاصمة الجزائر، في الأول والثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وتبعاً لذلك، حذر عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فتحي كليب، من أنّ تأخذ القمة العربية الإعلان بنواقصه وثغراته، وتورده في البيان الختامي باعتباره يحظى بإجماع فلسطيني.
وشدد على أنّه حال تضمين هذا الإعلان في مخرجات القمة، سيعتبر تراجعاً عن بيان القمة العربية في دورتها الـ (30) التي عقدت في تونس عام 2020، والذي دعا إلى “تقديم كل أشكال الدعم السياسي والمعنوي والمادي للشعب الفلسطيني، وتوفير الدعم المالي لميزانية دولة فلسطين، بما يمكّنها من مواجهة الضغوط والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تتعرض لها، وبما يسهم في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، ومواصلة دعم وكالة الغوث”. وحث القيادي الفلسطيني القيادة الجزائرية على الانتباه من ضرر ذلك على القضية الفلسطينية.
ويُذكر أنّ حركتي فتح وحماس وقعتا اتفاقيات مصالحة متعددة، لم تُطبق أي واحدة منها، ومنها اتفاق مكة لعام 2007، الورقة المصرية في 2009، اتفاق القاهرة في 2011، اتفاق القاهرة 2012، اتفاق الدوحة 2012، اتفاق الشاطئ 2014، اتفاق القاهرة 2017، لقاءات الدوحة 2016، ولقاءات أخرى في القاهرة وإسطنبول، وأخيراً اتفاق القاهرة 2021، ثم إعلان الجزائر 2022.
وكالات