رغم ما حمله بدء المحادثات التقنية مع صندوق النقد الدولي من تفاءل، إلا أن مستقبل المفاوضات التي ستخوضها تونس مع هذه المؤسسة المانحة ما يزال غامضا، خاصة في ظل ضبابية المشهد السياسي وغياب برنامج إصلاحات اقتصادية واضح.
يتفق محللون على أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لن تكون سهلة، بالنظر إلى الواقع السياسي الذي تمر به البلاد وتباين المواقف الدولية من التطورات السياسية التي جدت في تونس، خاصة منها الراجعة بالنظر إلى الدول الكبرى المساهمة في الصندوق على غرار الولايات المتحدة الأمريكية التي اشترطت اليوم الإعلان عن مواعيد للإصلاحات السياسية لمواصلة دعم واشنطن لتونس.
كما يثير موقف الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية في البلاد) من هذه المفاوضات نقاط استفهام عدة، في علاقة بالإصلاحات التي يشترطها الصندوق والتي ترتكز أساسا على خفض كتلة الأجور ورفع الدعم وإيجاد حل للمؤسسات العمومية المفلسة.
وكان الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي قد صرح في وقت سابق بأن الاتحاد “لن يدعم أي خيارات تمس من قوت الشعب التونسي أو تضرب القطاع العام أو الاستحقاقات الوطنية”.
ويشترط صندوق النقد الدولي وفقا للبنك المركزي التونسي إشراك جميع الأطراف الوطنية في إجراء هذه الإصلاحات، في إشارة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والأحزاب الفاعلة في البلاد.
ويوم الخميس المنقضي، أكد المتحدث باسم صندوق النقد الدولي “جيري رايس” تلقيه طلبا للمساعدة من الحكومة التونسية الجديدة لبحث إمكانية إطلاق برنامج تمويل جديد لصالح تونس، مشددا على أن المباحثات سترتكز على تحديد الأولويات الاقتصادية والإصلاحات التي يجب تنفيذها لتجاوز الأزمة الحالية التي تشهدها البلاد.
مفاوضات عسيرة
ويرى أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، رضا قويعة، في حديثه لـ “سبوتنيك”، أن حاجة تونس لمساعدة صندوق النقد الدولي أصبحت ضرورية ولا يمكن تجاوزها، مشددا على أن المفاوضات لن تكون يسيرة وأن مطالب الصندوق ستكون أصعب في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الراهن.
وأضاف أن توقف نشاط البرلمان إلى أجل غير مسمى وغموض المستقبل السياسي وغياب برنامج اقتصادي واجتماعي أو خطة للتعامل مع عجز ميزانية الدولة ومع مشكل الأجور سيصعب المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وأشار قويعة إلى أن الاستمرار في الرفع من أجور الموظفين سيفاقم عجز ميزانية الدولة، بشكل يتعارض مع الإصلاحات التي يطالب بها الصندوق والتي من ضمنها الحد من دعم الطبقات المتوسطة ومعالجة إفلاس المؤسسات العمومية.
وتابع:
“لا بد أن نفهم أن الصندوق يلعب أيضا دورا سياسيا وأيديولوجيا، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تسيطر على جزء هام من هذه المؤسسة تسعى إلى تحرير الاقتصاديات في العالم وخصخصة المؤسسات العمومية وإعادة تأسيسها، وهذا ما تطلبه من تونس في الظرف الحالي”.
ويرى قويعة أن تنفيذ هذه الإصلاحات يتطلب تنازلا من الأطراف الاجتماعية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل للخروج من عنق الزجاجة، قائلا “هذه الاصلاحات قد تجد أيضا قبولا من الشعب التونسي إذا ما قابلتها إجراءات مرافقة من قبيل التقليص في الأسعار وتحسين المقدرة الشرائية للمواطنين وضرب الفساد.
خلفيات سياسية
وفي تصريح لـ “سبوتنيك”، اعتبر الخبير الاقتصادي، جمال الدين عويديدي، أن تأخر انطلاق المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي له خلفيات سياسية، مشيرا إلى التصريح الأخير لوزير الخارجية الأمريكية “أنطوني بلينكن” الذي صرح فيه بأن بلاده مستعدة لمساندة تونس على أن تلتزم بتنفيذ بعض الاصلاحات السياسية.
وقال عويديدي إن أمريكا ستلعب دورا هاما في توجيه مسار المفاوضات التي ستخوضها تونس مع صندوق النقد الدولي بالنظر إلى امتلاكها حق الفيتو.
وأضاف “المحدد الثاني لمستقبل المفاوضات تضمنه بيان البنك المركزي التونسي الذي صدر يوم السبت المنقضي والذي نقل تنصيص صندوق النقد الدولي على ضرورة أن يكون الطرف الاجتماعي موقعا على برنامج الاصلاحات الكبرى، ولكنّ اتحاد الشغل أبدى اعتراضه على التوقيع على وثيقة الإصلاحات”.
ولفت عويديدي إلى أن الوفد التونسي سيتفاوض مع الصندوق للحصول على 4 مليارات دولار ستصرف على الأرجح على 4 سنوات أي بمعدل مليار دولار سنويا، في حين أن تونس سجلت عجزا تجاريا في حدود 8.5 مليار دولار خلال العشرة أشهر الأولى من السنة الحالية ولم تتخذ أي اجراءات لترشيد التوريد.
وأشار إلى أن الوصفة الوحيدة التي يقدمها صندوق النقد الدولي هي الضغط على الميزانية من خلال التقليص في كتلة الأجور ومنح التقاعد والإعتمادات المسندة للمرافق العمومية مثل الصحة والتعليم والنقل وخصخصة الشركات العمومية.
وتابع عويديدي “هذه الوصفة يتم تنفيذها في تونس منذ سنة 2013 ولكنها لم تأت أكلها وإنما تبين أنها أفضت إلى نتائج عكسية، وهو نفس الرأي الذي قدمه ثلاثة من أشهر خبراء الصندوق عندما وجهوا رسالة إلى المديرة العامة كريستين لاغار في يناير 2017 ينتقدون فيها هذه الوصفة ويقرون بأنها أدت إلى التقليص من نسب النمو والرفع من البطالة وخلق مزيد من التشنج الاجتماعي”.
ما هو موقف المركزية النقابية؟
من جانبه، قال الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، محمد علي البوغديري، لـ “سبوتنيك”، إن موقف الاتحاد لم يتغير من الإصلاحات التي سبق أن فرضها صندوق النقد الدولي مع حكومة هشام المشيشي.
واستطرد:
“لم نناقش بعد مسألة المشاركة في المفاوضات الجديدة مع صندوق النقد، ولكننا لا نرفض التفاوض بل نعتبره ضرورة ملحة في ظل الوضع المالي الصعب الذي تمر به البلاد وحاجتها إلى تجميع موارد مالية لسد عجز الموازنة”.
وشدد على أن الاتحاد متمسك بموقفه في رفض رفع الدعم عن المواطنين كليا، ولكنه سيدعم في المقابل مراجعته بشكل يسمح بتوجيهه إلى مستحقيه.
وأضاف “بالنسبة لملف المؤسسات العمومية المفلسة، نحن مستعدون لدعم الخطط التي ستفضي إلى إنقاذ هذه المؤسسات حتى تلعب دورها في تطوير الاقتصاد، حتى وإن تضمنت هذه الخطط تسريح بعض العملة، ولكننا نرفض في المقابل التفويت فيها”.
وحول التخفيض في كتلة الأجور، قال البوغديري إن المعايير التي تطبق على بعض الدول الغربية لا تنسجم مع النموذج التونسي، مستدلا على ذلك بنسبة الشباب التي تصل في تونس إلى 70 بالمائة بينما لا تتجاوز في بعض البلدان الأخرى 30 بالمائة، وهو ما يستوجب زيادة في عدد الموظفين من أساتذة ومعلمين.
وقال البوغديري إن التقليص في كتلة الأجور أمر غير مطروح، معتبرا أن مستوى الأجور في تونس ليس من بين الأعلى في العالم بل هو منخفض جدا مقارنة بغيرها من البلدان.
وتابع “لا يمكن أن تقبل تونس بكل ما يطلبه صندوق النقد الدولي، فالتفاوض يجب أن يقوم على مبدأ النقاش والإقناع بالحجة وليس القبول بأية شروط مهما كانت مضامينها، ويجب على الصندوق أن يتفهم بدوره الوضع الذي تمر به تونس خاصة في مثل هذه الفترة الانتقالية المهمة”.
ويتفق خبراء المالية والاقتصاد في تونس على أن المخرج الوحيد للأزمة المالية الخانقة التي تعيشها البلاد هو التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يفضي إلى حصول تونس على تمويلات بقيمة 4 مليارات دولار، ستوجه بالأساس لسد عجز ميزانيتها.
ووفقا لقانون المالية التكميلي الذي صدر قبل أيام بمرسوم رئاسي، فإن عجز ميزانية الدولة التونسية قد بلغ 9.7 مليار دينار (3.4 مليار دولار) خلال السنة الحالية، مرتفعا بنسبة 28 بالمائة عمّا كان محددا في قانون المالية الأصلي.
المصدر سبوتنيك