لا تكاد السوق التونسية تحقق استقرارا في التزود بالمواد الأساسية حتى تطل الأزمة برأسها من جديد، ما يجبر المواطنين على العودة إلى الانتظار في طوابير الخبز أو الوقود أو البحث عن الدواء، بينما تواصل السلطة إنكارها للوضع محملة المضاربين وشبكات خفية مسؤولية افتعال الأزمات و”التلاعب بقوت التونسيين”.
ويشكو المواطنون في تونس من صعوبة التأقلم مع نقص التموين بعد سنوات من الوفرة ما يسبب لهم ضغوطا نفسية ومالية تتحول إلى سلوكيات انفعالية وغضب عدواني في بعض الأحيان. في المقابل، تصر السلطة على أن فقدان المواد الأساسية من الأسواق مرده سعي أطراف سياسية إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية في البلاد والعمل على افتعال الأزمات.
لكن خبراء اقتصاد يفسرون أزمة التموين بتواصل عجز ميزان المبادلات التجارية وارتفاع نسبة المديونية والتراجع الملحوظ في إنتاج الثروة مما جعل الدولة عاجزة عن الإيفاء باستحقاقاتها المالية المحلية والدولية، وهو ما انعكس سلبا على مسالك الإنفاق وقلّص من احتياطي العملة الصعبة، وبالتالي عدم القدرة على إتمام الصفقات التجارية الخارجية من حبوب وأرز وزيوت نباتية.
يقول الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، إن الصعوبات المالية للمنشآت الحكومية المكلفة بتنفيذ الشراءات وعدم قدرتها على سداد فواتير الصفقات التجارية التي تجريها ولّدت عامل الندرة الذي يستغلّه التجار للمضاربة.
واعتبر الشكندالي في تصريح لـ”العربي الجديد” أن السلطة هي المسؤول الأول عن ضمان وفرة السلع في الأسواق، باعتبارها المكلف الحصري بتنفيذ الشراءات عبر مؤسساتها. غير أن هذه المؤسسات بحسب المتحدث، تعاني مديونية عالية تحد من قدرة البنوك على مواصلة تمويلها.
ويضيف: “تواجه البنوك الحكومية المكلفة بتمويل الصفقات التجارية لفائدة المنشآت المكلفة بالشراءات العمومية، صعوبات في فتح الاعتمادات المصرفية لدى البنوك الأجنبية”.
وأوضح الشكندالي أن صلابة البنوك التونسية أصبحت محل شك من قبل المصارف الخارجية بسبب ارتفاع قائم ديونها لدى الدولة وإمكانية سقوطها في فخ عدم القدرة على الخلاص.
ويكشف التقرير العام لمراقبي الحسابات (هيكل رقابي حكومي)، أن ديون ديوان الحبوب (المؤسسة المكلفة بشراء الحبوب) تجاه البنك الوطني الفلاحي بلغت أكثر من 4.7 مليارات دينار أي ما يعادل 1.5 مليار دولار سنة 2022.
وشهدت ديون ديوان الحبوب العام الماضي ارتفاعا بقيمة 827.2 مليون دينار أي بزيادة مقدرة بـ21.8 بالمائة مقارنة بمستواها في نهاية سنة 2021.
كذلك يبيّن تقرير لوزارة المالية حول المنشآت الحكومية أن الشركة التونسية لصناعات التكرير (مكلفة بشراء المحروقات) تعاني من مديونية تزيد عن 2.1 مليار دينار، أي ما يعادل 700 مليون دولار، وذلك إلى حدود نهاية 2021 من بينها 480 مليون دينار تجاه البنوك المحلية وبـ 679.6 مليون دينار لدى البنوك الأجنبية.
وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال البنك الدولي في تقرير حول الظرف الاقتصادي لتونس بعنوان “إدارة الأزمة في وضع اقتصادي مضطرب”، إنه يتعين على تونس إصلاح منظومة دعم الحبوب المكلفة على مستوى الدعم المباشر والتوريد لضمان صلابة النظام الغذائي، علما بأن هذه الإصلاحات الحساسة سياسيا واجتماعيا تتطلب دراسة معمقة وجدولة لمواعيد تنفيذها.
ويرى وزير التجارة السابق والخبير المالي محسن حسن، أن أزمة فقدان المواد الأساسية من الأسواق وارتفاع أسعارها، لها ارتباط كذلك بأزمة تزوّد دولية وارتفاع في أسعار المواد الأولية والغذائية والمحروقات على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويقول حسن في تصريح لـ”العربي الجديد” إن مشكلة التضخم النقدي وارتفاع الأسعار ليست جديدة، ولكنها زادت بشكل ملحوظ مؤخراً، مرجحا أن يستمر التضخم عند مستويات عالية إلى نهاية العام الحالي. وتقدر نسبة التضخم في تونس بحسب أحدث بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي بـ10.3 بالمائة، وهي النسبة الأعلى التي تسجلها البلاد منذ 40 عاما.
وأدى التضخم النقدي وارتفاع الأسعار الدوري بحسب دراسة جديدة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى توسع دائرة الفقر في تونس لتشمل ثلث السكان وتآكل الطبقة المتوسطة، نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة وانخفاض نسبة النمو، والتداين المفرط بسبب انعدام خلق الثروة.
وأبرز التقرير الثلاثي حول الاحتجاجات الذي نشره المنتدى في مايو/ أيار 2023 أن البلاد سجلت خلال الربع الأول من السنة 1262 احتجاجا معيشيا.
الوضع الاقتصادي أثار خلال الربع الأول من العام الحالي حالة من الغضب وعدم الرضا، وكان أيضا العامل السياسي في العديد من المناسبات وراء عدد من التحركات الاحتجاجية المسجلة.
واعتبر التقرير أن التونسيين سيكونون في مواجهة تضخم مرفوق بنقص في المواد الغذائية واختفاء العديد منها، دون سبب واضح أو تبرير منطقي من قبل السلطة.
العربي الجديد