يصطف مع بنايات مختلفة الأشكال الهندسية يغلب عليها الطابع الفرنسي مع بعض الإسلامي، لكنه يبقى مميزاً بمعماره المربع ولونه المثير البني، إنه مبنى برلمان الجزائر أو المجلس الوطني الشعبي الذي يبقى شاهداً على فترات من تاريخ الجزائر من الاحتلال الفرنسي إلى الاستقلال وما بعده.
فرنسي التشييد ويشبه “الدوما” الروسي
لا يشبه هيكل المجلس الشعبي الوطني أمثاله في العالم إلا برلمان روسيا “الدوما”، غير أن داخله لا يختلف عن أمثاله في باقي دول العالم يطل على البحر الأبيض المتوسط من شارع “زيغود يوسف” أحد الضحايا الذي ماتوا خلال ثورة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي، وهو من الشوارع الفخمة والطويلة في العاصمة ويتوسط أحد أبرز الفنادق بالبلاد “فندق السفير” ومقر “المحافظ” وكذا محكمة “سيدي أمحمد” التي اشتهرت بمحاكمات رموز الفساد وما يعرف بـ “العصابة”، وكذا عدد من العمارات السكنية والبنايات التي اتخذت كمقار شركات كبرى وبنوك.
ترك الفرنسيون إرثاً تمثل في المباني السكنية والتجارية والإدارية، وهو ما كان محل نقاش بين الأوساط الجزائرية، إذ تتزين معظم واجهات المدن الكبرى بالبنايات التي تعود للحقبة الفرنسية، ويفوق عددها مليوني وحدة سكنية يتجاوز عمر بعضها 150 سنة، ومن بينها “المجلس الشعبي الوطني” الذي يعود تاريخ بنائه لثلاثينيات القرن الماضي، وفق ما كشف عنه النائب علي محمد ربيج لـ “اندبندنت عربية”، الذي أوضح أن المقر كان خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر يمثل المجلس الجزائري الفرنسي وهو بمثابة البرلمان، مؤكداً أنه للتاريخ والحقيقة تعتبر طريقة تشييده ذكاء هندسياً عبر الأزمنة وتحفة معمارية.
الثلاثينيات
من بداية عام 1840 صمم المهندسون المعماريون “بيار وأوجسا جيوشاين” و”تشارلز فريدريك كاسيريو” المباني الجديدة مثل المحاكم، وبعض العمارات والمسارح التي لا تزال شامخة إلى اليوم مشكلة أحد أهم شوارع عاصمة البلاد، شارع “تشي غيفارا” المعروف سابقاً بشارع الجمهورية المحاذي للبرلمان الموجود بشارع “زيغود يوسف” الذي تم تشييد مبانيه بداية من 1930.
وتسمي كتب التاريخ الفرنسية الفترة الممتدة بين أعوام 1930 و 1962 من الاحتلال الفرنسي للجزائر، بمرحلة الحداثة ونشأة الهندسة الحديثة في أوروبا، إذ تطور طابع جديد من العمران بعد القرن الـ 19 بتأثير الخطاط الفرنسي “لو كوربوزييه”، من خلال العمارات الموجهة للمعمرين والذي أعد مشاريع معمارية للجزائر.
ويتخذ “المجلس الشعبي الوطني” شكل المعمار الأفقي بطوابق عدة إلى الأعلى، وباستثناء الأقواس الضخمة التي تزين مدخله على جهة البحر، لا زخرفة ولا نقوش على جدرانه، مما يجعل من الصعب تحديد هويته لولا الكتابات العريضة التي تشير إلى أنه البرلمان، بخاصة أن لونه بني على عكس بنايات العاصمة التي يطلق عليها الجزائر البيضاء.
تواريخ وحوادث
واحتضن المقر أول برلمان في سبتمبر (أيلول) 1962 برئاسة رئيس الحكومة الموقتة الجزائرية فرحات عباس، غير أنه أوقف عام 1965 إثر الانقلاب الذي نفذه وزير الدفاع هواري بومدين على الرئيس المنتخب أحمد بن بلة، ومن ثم تم تجاوز البرلمان لمصلحة إطلاق مجلس للثورة لتسيير شؤون الدولة، إذ استمر الحكم من دون برلمان مدة 10 سنوات، وبعدها أجريت أول انتخابات تشريعية عام 1977، وترأس البرلمان رابح بيطاط أحد الثوريين التاريخيين.
كما تعرض البرلمان للحل عام 1992، وجرى تعويضه بهيئات انتقالية بسبب الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد إلى غاية عام 1997 مع انتخاب أول برلمان تعددي.
وكان “المجلس الشعبي الوطني” مسرحاً لعمليات تزوير فاضحة منذ فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، بينها تلك التي لفتت الانتباه أكثر من غيرها، انتخابات المجلس الجزائري الفرنسي يومي الرابع والـ 11 من أبريل (نيسان) 1948 التي تستهدف 120 مقعداً، وشهدت مشاركة إلى جانب التشكيلات السياسية الفرنسية والأوروبية، كل الأحزاب الجزائرية الناشطة آنذاك، غير أنها عرفت كل أنواع التدليس والتزوير وأعمال القمع والاضطهاد في حق المناضلين وبعض المترشحين من أجل ضمان فوز المستقلين المؤيدين للحكومة.
الجزائر تترقب برلماناً حديثاً يجسد الهوية
وبهدف إحداث تغيير شكلاً وصدقية وهوية، أقرت الحكومات السابقة بضرورة إنجاز مجمع برلماني يكون بتصميم ومعمار وهندسة جزائرية، وهو ما تم بعد أن كشف مكتب دراسات مكلف عن المشروع الذي يستحوذ على مساحة 220 ألف متر مربع، ويحوي أبنية موزعة حول ساحة عامة كبيرة كـ “مكان لقاء رمزي للشعب الحر الذي يمنح الجمهورية شرعيتها وسلطتها”، وفق ما عبر عنه المهندسون المعنيون ضمن موقع يصل الأجزاء التاريخية والحديثة من المدينة.
ويتفرع المدخل الغربي للساحة إلى الجمعية البرلمانية والقنصلية الوطنية اللتين تشكلان المكاتب الأدنى والأعلى في البرلمان الجزائري لتكونان معاً “بوابة صرحية” عند مدخل الساحة، وفي نهاية الساحة من الجهة الشرقية يوجد مبنى البرلمان ليكون بموقعه المتصدر هذا ممثلاً لدوره في تقريب وجمع المكتبين الآخرين مع بعضهما بعضاً، إضافة إلى دوره في استضافة الوفود العالمية في إشارة إلى “التقاليد الجزائرية في كرم الضيافة وتوفير المكان الموقر للضيف”.
مبنى البرلمان تعلوه قبة على هيئة شكل هيكلي يغطي سطحاً مفتوحاً يعلو البرلمان نفسه، وتقع حول القاعة المركزية المكاتب وقاعات الاجتماعات المطلوبة من أجل عمل حكومة فعالة، وكون هذه الغرف تتموضع على الجوانب الخارجية من المباني، فإنها تستفيد من الإطلالة على مشاهد المدينة.
تتكون واجهات المباني الثلاث من الزجاج المغطى بالمشربيات السيراميكية والإسمنتية كـ “صدى للعمارة العربية التقليدية في المدينة”، كما تحيط بالمجمع ووسط ساحاته الداخلية ومبانيه الحدائق التي تزينها المسطحات المائية لتعكس أيضاً “المدينة التقليدية”.
وأمام “الحلم” الذي توقع إنهاء المشروع بحلول عام 2019 و”الحقيقة” التي لم تر تجسيد البرلمان في 2022، يواصل مبنى “زيغود يوسف” كما يحلو للجزائريين تسميه، كتابة تاريخ الجزائر إلى حين.
independentarabia