في ظل الأوضاع المأساوية التي يمر بها قطاع غزة، يواجه الصيادون الفلسطينيون واقعًا أكثر قسوة من أي وقت مضى، فبعد عقود من القيود المشددة، باتت مهنة الصيد التي كانت يومًا مصدر رزق للآلاف مهنة محفوفة بالمخاطر، حيث لم يعد الوصول إلى البحر مجرد وسيلة للعيش، بل أصبح مسألة حياة أو موت.
وفقًا لتقرير نشره موقع “+972” الإسرائيلي، فإن الصيادين في غزة يعيشون تحت وطأة الحصار الإسرائيلي والاعتداءات المستمرة، حتى بعد وقف إطلاق النار، ما يجعل مستقبل هذه المهنة في مهب الريح.
مهنة تحت التهديد
على مدار سنوات، واجه الصيادون في غزة قيودًا متزايدة فرضتها إسرائيل على مناطق الصيد المسموح بها، وبموجب اتفاقيات أوسلو، كان يُفترض أن تصل مساحة الصيد إلى 20 ميلًا بحريًا، إلا أن إسرائيل لم تسمح لهم أبدًا بتجاوز 15 ميلًا، بل فرضت قيودًا أكثر صرامة في فترات مختلفة.
وبعد السابع من أكتوبر اختفى قطاع الصيد بالكامل، حيث أطلقت البحرية الإسرائيلية النار بشكل روتيني على كل من يحاول دخول البحر، مثال ذلك أحمد الهسي، الصياد البالغ من العمر 54 عامًا من مخيم الشاطئ، الذي لم يلمس صنارته منذ أكثر من 17 شهرًا، يقول لموقع “+972”: “عائلاتنا كبيرة، وصيد الأسماك هو مصدر دخلنا الوحيد، ما زلنا ننتظر السماح لنا بالصيد من قبل الجيش الإسرائيلي”، لكن الأمل في العودة إلى البحر يبدو ضعيفًا، خاصة مع استمرار تهديد البحرية الإسرائيلية للصيادين.
خسائر فادحة في قطاع الصيد
عند سريان وقف إطلاق النار في يناير 2025، عاد الصيادون إلى الميناء ليجدوا أن كل شيء قد دُمر، يروي “الهسي”: “لم يبق شيء، علينا أن نبدأ من الصفر”.
وبحسب نزار عياش، رئيس نقابة الصيادين في غزة، فإن الأضرار التي لحقت بهذا القطاع تُقدر بنحو 75 مليون دولار، وأضاف أن إسرائيل قتلت ما لا يقل عن 200 صياد خلال الحرب، ولا تزال تستهدفهم حتى بعد توقف القتال.
رجب أبو غانم، صياد آخر يبلغ من العمر 51 عامًا، كان يمتلك قاربًا كبيرًا ويعمل فيه منذ عقود، كان يقيم في حي الشيخ عجلين الراقي، حيث كان البحر جزءًا من حياته اليومية. يقول: “كنت أتنفس هواء البحر ليلًا ونهارًا، وأمشي عشر خطوات لأجد نفسي على الشاطئ”.
لكن الحرب أجبرت أبو غانم على النزوح إلى مخيم المواصي في خان يونس، وعندما عاد إلى شمال غزة بعد وقف إطلاق النار، وجد منزله وقاربه قد دُمرا بالكامل، فيقول بأسى: “لا أصدق أنني لم أدخل البحر للصيد منذ عام ونصف، أبكي كل يوم عندما أنظر إلى البحر ولا أستطيع دخوله”.
كيف انهار الصيد؟
شهد قطاع الصيد في غزة انحدارًا مستمرًا منذ التسعينيات، حيث أدت القيود الإسرائيلية إلى تقليص مساحة الصيد تدريجيًا، ما أثّر على تنوع الثروة السمكية، ومع فرض الحصار الإسرائيلي عام 2007، تزايدت التحديات، خاصة مع وجود منصات الغاز الإسرائيلية والأمريكية بالقرب من سواحل القطاع، ما أدى إلى مزيد من التضييق على الصيادين.
قبل الحرب الأخيرة، كان عدد الصيادين المسجلين في غزة قد وصل إلى 4900 صياد، إلى جانب 1500 شخص يعملون في أنشطة متعلقة بالصيد، مثل تنظيف الأسماك وبيعها، لكن الحرب جاءت لتقضي على هذه الصناعة بالكامل، حيث دمرت الغارات الجوية القوارب، ومنعت معظم الصيادين من الوصول إلى البحر.
الصيد في ظل الخطر
على الرغم من المخاطر، لم يستطع بعض الصيادين البقاء بعيدًا عن البحر، صبحي نايف أبو ريالة، 35 عامًا، نزح من الشاطئ إلى رفح الفلسطينية ثم دير البلح، لكنه لم يتمكن من الابتعاد عن مهنته، يقول: “كنت خائفًا، لكنني صياد، ولا أستطيع العيش بدون البحر”، كان يخرج للصيد نهارًا فقط حتى تتأكد البحرية الإسرائيلية أنه لا يشكل تهديدًا، لكن حتى ذلك لم يكن كافيًا للحماية من الاعتداءات.
إسماعيل أبو جياب، صياد آخر يبلغ من العمر 35 عامًا، فقد قاربه خلال القصف الإسرائيلي، لكنه لم يتوقف عن المحاولة، عاد إلى استخدام قارب تجديف قديم وشباك ممزقة، لكنه بالكاد كان يجني 10 شواكل (نحو 2.75 دولار) في اليوم. يقول وفق موقع “+972”: “عدنا إلى استخدام كل ما تبقى لدينا، كنا نعمل يومًا واحدًا، ثم نتوقف عشرة أيام لأن المعدات لم تعد تتحمل أكثر من ذلك”.
حتى الصيادين الذين اقتصروا على الصيد في المياه الضحلة لم يسلموا من المضايقات، حيث واصلت البحرية الإسرائيلية استهدافهم، سواء بإطلاق النار أو بإلحاق الضرر بقواربهم، ومنعت إسرائيل دخول المواد اللازمة لصيانة وإصلاح القوارب، ما زاد من تعقيد الأزمة.
تداعيات إنسانية وأزمة غذائية
لم يقتصر تأثير الحرب على الصيادين أنفسهم، بل امتد ليشمل سكان غزة الذين كانوا يعتمدون على الأسماك كمصدر رئيسي للبروتين، فمع تدمير معظم قوارب الصيد، أصبح الحصول على الأسماك أمرًا بالغ الصعوبة، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير، ويوضح نزار عياش أن “انهيار قطاع الصيد أثر بشدة على الأمن الغذائي لسكان غزة، حيث لم تعد الأسماك متوفرة حتى في الأسواق”.
إضافة إلى ذلك، فإن نقص الوقود والإمدادات الأخرى أدى إلى توقف مصانع الثلج التي كانت تُستخدم لحفظ الأسماك، ما جعل تجارة الأسماك شبه مستحيلة حتى بالنسبة للصيادين القادرين على دخول البحر.
تقييد الوصول إلى البحر
وحسب موقع “+972″، صرّح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بأن سكان غزة “أُبلغوا بالقيود المفروضة على المنطقة البحرية المجاورة لقطاع غزة”، مضيفًا أن “مهمة البحرية الإسرائيلية هي ضمان أمن إسرائيل ضد التهديدات الأمنية في الساحة البحرية مع اتخاذ الاحتياطات الممكنة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين”.
لكن هذا التبرير لا يلغي الواقع القاسي الذي يعيشه الصيادون، فهم ليسوا فقط محرومين من مصدر رزقهم، بل أصبح البحر الذي كان يومًا موردًا للحياة، مصدرًا للخطر والموت.
لقد أصبح صيد الأسماك في غزة معركة يومية من أجل البقاء، فبين الحصار الإسرائيلي، والتضييق المستمر، والتدمير المنهجي للبنية التحتية للصيد، باتت مهنة الصيد على وشك الانقراض في القطاع.
لكن رغم كل ذلك، لا يزال بعض الصيادين يرفضون الاستسلام، يقول أبو جياب: “حياتي كلها في البحر. ورثنا هذه المهنة من آبائنا وأجدادنا، نحن كالسمك إذا غادرنا البحر نموت”.