عُرف بيرم التونسي بـ”شاعر الشعب وهرم الزجل”، واعتبره النقاد رائداً لشعر العامية في مصر سار على نهجه من تبعه من شعرائها. كانت بداية انطلاقته الحقيقية من الإسكندرية في أوج ثورة 1919 التي شهدت تصاعداً كبيراً للحسّ الوطني في كل أنحاء مصر بتعاونه مع صديقه سيد درويش ليقدم الثنائي مجموعة من أروع الأعمال التي تنبض بالوطنية وتُعدّ الآن من التراث الثقافي المرتبط بهذه الحقبة.
انشطر إلى نصفين بين مصر وتونس، وهي أوطان لا تعدو أن تكون لبيرم التونسي سوى مهجر ومنفى أحس فيهما بالغربة والاغتراب وبالظلم والضيم، لكن هذه الأمكنة ذاتها صنعت منه أيقونة للزجل فوصفه النقاد بـ”فنان الشعب” و”شاعر العامية الأول” و”بودلير الشرق”، وغيرها من التسميات التي تُدلل على نباهته وعبقريته الشعرية.
ولد “محمود بيرم التونسي” في حي الأنفوشي بالإسكندرية بشارع البوريني بالسيالة في 3 مارس 1893، ولكن والده سجّله ضمن مواليد حي الأزاريطة في جهة الرمل.
كان لبيرم أخت واحدة من والده وكانت تكبره بحوالي عشرين عامًا، وكان والده يمتلك مع أبناء عمومته دكانًا لبيع الحرير، فكان مثل باقي التجار يريد تعليم ابنه، فما لبث أن أرسله وهو في الرابعة من عمره إلى كُتّاب الشيخ جاد الله، وأوصى الشيخ بقوله: ” افعل ما تريد” فكأن الشيخ ينتظر سماع هذه الجملة حتى ينهال على الصغير بالضرب؛ حيث كان بيرم لا يجيد الحساب فلا يفرق بين السبعة والثمانية في الكتابة!.
ويئس الوالد من تعليم ابنه، فسلّم بذلك وأخرجه من الكتاب وأرسله ليعمل في دكان الحرير مع أبناء عمومته، حتى ليقول بيرم عن هذه الفترة: إنه لم يستفد من هذا الشيخ إلا إلمامه بمبادئ القراءة والكتابة فقط، أما حبه وشغفه بالقراءة والمعرفة فلم يكن ليتعلمها أبدًا بهذا الأسلوب العنيف في التربية!.
وفي العام الذي خرج فيه بيرم من الكُتاب، فُوجئ بحادثين: الحادث الأول هو مولد أخته وموتها بعد هذا الميلاد بثلاثة أيام، والحادث الثاني جاء عن طريق المصادفة، حينما اكتشفت أمه أن زوجها تزوج عليها سرًا من فنانة كانت تتردد على دكانه. وكان لهاتين الحادثتين أثر كبير على نفس الطفل حيث أصبح طفلًا حزينًا، لا يقبل اللعب مع الأطفال، وكان يكتفي بمراقبتهم وقت اللعب. وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت الأب الذي لم يترك للأم والأخت والابن غير المنزل الذي يعيشون فيه، حيث استولت زوجة أبيه علي ثروته لحظة موته، والتي كانت خمسة ألاف جنيه ذهبًا، واستولى أبناء عمه على تجارة أبيه. ونتيجة لذلك انقطع بيرم عن الدراسة وهو في الثانية عشرة من عمره، واضطر للالتحاق كصبي في محل بقالة، حيث أصبح رجل البيت، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل حيث طُرد منه. ولم ينته الأمر عند هذا الحد من التعاسة حيث تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوج أمه في عمله الشاق وكان يعمل بصناعة هوادج الجمال. ثم توفيت أمه عام 1910.
عاد بيرم إلى تونس مرة أخرى بعد نفيه من مصر أواخر عام 1932، فكلف برئاسة تحرير “الزمان” في يناير/كانون الثاني 1933 التي تحولت إلى الجريدة بجهود الشاعر الذي وجد متنفسًا جديدًا يعود من خلاله إلى عالم الصحافة، كما شارك التونسي رفقة ثلة من الأدباء (جماعة تحت السور) في تحرير الصحف ومنها جريدة “السرور” لعلي الدوعاجي (سبتمبر/أيلول 1936)، ليصدر بعدها في أكتوبر/تشرين الأول جريدة بعنوان “الشباب” التي سرعان ما أغلقت بأمر من السلطات.
القرارات الزجرية لم تردع بيرم ولم تحبط عزائمه، فواصل نقده وتهكمه على السلطة من خلال جريدته الشهيرة “السردوك” (الديك)، إلا أن الاحتلال أصدر في نهاية المطاف قرارًا بإبعاده عن البلاد في 21 من أبريل/نيسان 1937.