إسطنبول/ الأناضول
بداية لا بد من التأكيد على أن العلاقات التركية الأمريكية هي علاقات استراتيجية بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن الطرفين بحاجة بعضهما البعض فعليا، فهناك العديد من الملفات لا خيار فيها لواشنطن سوى الاعتماد على أنقرة.
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن تلك العلاقات لم تكن يوما على ما يرام، خصوصا في ظل وجود حكومات قوية بتركيا، لأن الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة كانت ترى في تركيا دولة وظيفية تؤدي ما يطلب منها حتى لو لم يكن ذلك مطابقا لمصالحها.
مقابل ذلك تبدو تركيا، خصوصا خلال العقدين الأخيرين تحت قيادة “حزب العدالة والتنمية”، حريصة على نوع من الاستقلالية في قراراتها، حيث نهجت في سياساتها الخارجية، استراتيجية قائمة على الانفتاح على جميع القوى العالمية النافذة، مع تحقيق قدر التوازن في علاقاتها مع تلك القوى، بما يحقق أكبر قدر من المصالح الاستراتيجية لتركيا.
وقد نجحت أنقرة إلى حد كبير في تطبيق استراتيجية التوازنات، مما أهلها لتصبح قوة إقليمية يحسب لها حساب، ولتكون لاعبا رئيسا في عدة ملفات إقليمية معقدة، في مقدمتها الملفان السوري والليبي، ويكون لها ثقل سياسي وعسكري في مناطق القوقاز والبلقان.
من هنا، لا يفتأ الرئيس رجب طيب أردوغان يردد مقولة “تركيا الجديدة”، للتأكيد على النقلة النوعية التي حققتها أنقرة في السنوات الأخيرة، مما أهلها لتكون صاحبة كلمة بين الدول الرائدة في العالم بواسطة قوتها السياسية والاقتصادية، من خلال البنية التحتية المتينة التي أنشأتها في كل مجال، بدءا من التعليم وحتى الصحة والأمن والتكنولوجيا.
رغم كل ذلك فإن النظام المؤسس في الولايات المتحدة ومعه بعض الإدارات الأمريكية، لا يريدون قبول هذه الحقيقة، ويحاولون القفز والالتفاف حولها في كل مرة.
** العوامل المؤثرة على الموقف التركي
ثمة مشكلات ذات طابع إستراتيجي شكلت على الدوام – من وجهة نظر أنقرة – مصدر تهديد جدي للعلاقات بين البلدين، يضاف إليها توترات أقل أهمية، لكنها ساهمت هي الأخرى في تعكير صفو العلاقات بينهما.
أولها، اختلاف التقديرات والتصورات لكل من تركيا والولايات المتحدة بخصوص ترتيبات الأمن في المنطقة، وعلى رأس هذه التباينات تقع مسألة دعم واشنطن لمنظومة “بي كا كا” الإرهابية بشتى فروعها ومختلف مسمياتها، واتخاذها شريكا استراتيجيا في الحرب على الإرهاب.
وتعتقد أنقرة أن الأمريكان لا يبالون بالأمن القومي التركي، ولا يكترثون لما سبق ومثلته هذه المليشيات الانفصالية من تهديد إرهابي، كلّف تركيا خلال ثلاثة عقود أكثر من تريليون دولار، وتسبب في مقتل ما يقارب أربعين ألف إنسان، عدا الضريبة الإنسانية لهذه الحرب.
ثانيا، يأتي دعم الكيان الموازي في السياق ذاته، حيث ما تزال واشنطن تصر على عدم تسليم فتح الله غولن، المتهم الأول بترتيب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، رغم جميع الأدلة التي قدمتها أنقرة لواشنطن بهذا الخصوص.
ثالثا، التجاهل الأمريكي لمطالب تركيا بتأمين احتياجاتها الدفاعية الاستراتيجية، وكأنها تابع لا حليف إستراتيجي، وهو ما بدا من تجاهل مطالب التسليح التي توجهت بها تركيا للدول الغربية، قبل أن تتجه لروسيا، مما يثير الشكوك لدى أنقرة حول الأسباب التي تقف خلف تجاهل مطالبها في الدفاع عن نفسها.
رابعا، قرار إدارة الرئيس جو بايدن بإخراج تركيا من مشروع طائرات F35، بالرغم من وفاء أنقرة الكامل بجميع التزاماتها تجاه المشروع.
خامسا، قضية المصرفي التركي هاكان أتيلا، الذي احتجزته السلطات الأمريكية في 27 مارس/ آذار 2017، بتهمة خرق العقوبات الأمريكية على إيران، وحكم عليه القضاء الأمريكي بالسجن لمدة 32 شهرا، ثم أفرجت عنه بعد 28 شهرا، وسلمته لتركيا.
سادسا، بعد توليه منصبه بثلاثة أشهر، أجرى الرئيس بايدن، الذي تحدث عن دعم المعارضة لإسقاط أردوغان في حملته الانتخابية، اتصالا هاتفيا بنظيره التركي ليبلغه بإقراره بما يسمى “الإبادة الجماعية للأرمن”.
إقرار بايدن، بأن الأرمن تعرضوا لمذبحة مزعومة على يد الإمبراطورية العثمانية عام 1915، وهو تصنيف حرص الرؤساء الأمريكيون السابقون على تجنب استخدامه، مراعاة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة.
** العوامل المؤثرة على الموقف الأمريكي
ورغم نقاط الخلاف، تظل تركيا أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، انطلاقاً من الدور المهم لأنقرة كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن مثل إسرائيل والعراق وإيران وسوريا وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ودورها المحوري في حفظ الاستقرار في الحزام الممتد من وسط أوروبا حتى تخوم الهند وروسيا.
يمكن إجمال الاتفاق والخلاف بين أنقرة وواشنطن من وجهة نظر الأخيرة على الشكل التالي:
أولا: تحول البوصلة التركية نحو روسيا
أثار شراء تركيا لمنظومة “أس400” الروسية مخاوف حقيقية لدى واشنطن، من انحراف تركيا باتجاه المحور الروسي المعادي لحلف الناتو. حيث لم يقتصر التعاون التركي الروسي على شراء المنظومة، فقد تطورت العلاقة بين الطرفين إلى مشاريع استراتيجية عملاقة في مجالات الطاقة النووية والتعاون في سوريا وارتفع مستوى التبادل التجاري بينهما إلى أرقام قياسية.
ترى الولايات المتحدة ومعها الدول الأعضاء في حلف “الناتو”، شراء تركيا للمنظومة الروسية تهديدا محتملا للأمن الجماعي الأوروبي، من دون النظر إلى المسؤولية الأوروبية عن توجه أنقرة شرقا، وبخاصة خذلان دول الناتو لتركيا أثناء تدهور علاقاتها مع روسيا على خلفية إسقاط الطائرة الحربية الروسية على يد ضباط أتراك من تنظيم الكيان الموازي.
ثانيا: الصناعات الحربية التركية
قطعت تركيا شوطا بعيدا في تطوير صناعاتها الحربية، من حيث المبدأ لا ترى واشنطن بأساً في ذلك، لكن الأدوار العسكرية التي قامت بها مسيرات “بيرقدار” في ليبيا وسوريا وأذربيجان أذهل المراقبين العسكريين والسياسيين معا، وأصبحت كثير من الدول تنظر إلى تركيا كمنافس قوي في مجال الصناعات العسكرية.
في هذا الإطار بدأت واشنطن باتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها التضييق على قطاع الصناعات الحربية التركي.
ثالثا: دور تركيا بالقوقاز في عملية فصل روسيا عن الصين
ترى الولايات المتحدة تركيا شريكا استراتيجيا، يلعب دورا هاما في خدمة المصالح الأمريكية بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، يتمثل في مواجهة روسيا.
التحول في استراتيجية المواجهة الأمريكية، من مواجهة روسيا إلى مواجهة الصين، ومحاولة إبعاد روسيا عن الصين، أدى إلى زيادة حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحالف مع تركيا.
وفي هذا الإطار، حددت الإستراتيجية الأمريكية الدور التركي في تمثيله خط دفاع متقدم في مواجهة روسيا، من خلال العمل على الحد من قدرتها، ومن سعيها إلى نشر نفوذها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. وقد لعبت تركيا هذا الدور بكفاءة منذ انضمامها إلى حلف الناتو عام 1952.
رابعا: دعم أوكرانيا
تدعم الولايات المتحدة العلاقات الاستراتيجية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، وترى تلك العلاقات مدخلا مناسبا لإقحام أنقرة في الملف الأوكراني الساخن، المرشح للانفجار في أي وقت.
ويشكل الملف الأوكراني أحد خطوط التماس الساخنة بين الولايات المتحدة وروسيا، خصوصا بعد قيام الأخيرة باحتلال شبه جزيرة القرم.
خامسا: الانفتاح التركي على القارة الإفريقية
نجحت الصين في اختراق القارة الإفريقية، من خلال تقديم خدمات غير محدودة في مجالات عدة، ولأن الوجود الأمريكي في القارة السمراء ضعيف، وخياراتها هناك محدودة، فهي بحاجة إلى شريك استراتيجي موثوق.
لهذا السبب، تدعم الولايات المتحدة وجود تركيا وتمددها في القارة السمراء، كشريك استراتيجي يمكن العمل معه على كبح جماح التغول الصيني هناك، بما تملكه تركيا من روابط تاريخية وقوة ناعمة تؤهلها لبناء علاقات متينة هناك دون مصاعب تذكر، على عكس الدور الفرنسي والأوروبي غير المرغوب والمنبوذ إفريقيا، والذي لا يستطيع الصمود أمام التنين الصيني.
سادسا: اشراك تركيا في الصراع مع إيران
من بين الملفات الخلافية ذات الطبيعة الإقليمية التي تعقد الموقف الأمريكي من تركيا، ما تبديه أنقرة من تمسك بعلاقاتها مع إيران، ضاربة عرض الحائط بالتحذيرات والعقوبات الأمريكية، وهو ما أدى لعدد من حوادث الاحتكاك وتوتر العلاقات بين الطرفين، منها ملف اعتقال المصرفي التركي هاكان أتيلا.
سابعا: التحذيرات الأمريكية بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان
هناك دعايات سلبية، وعمليات شيطنة لتركيا في الولايات المتحدة، تقف وراءها قوى عديدة، في مقدمتها اللوبيات الصهيونية، وجماعة غولن التي تنشط هناك.
في كثير من الأحيان تقوم الإدارات الأمريكية باستخدام هذه الحالة السلبية للضغط على تركيا، من أجل دفعها لاتخاذ مواقف معينة، مثل ممارسة ضغوط أكثر على إيران، على سبيل المثال.
وفي بعض الحالات يضطر الساسة الأمريكان إلى مجاراة ما يشاع في الصحافة الأمريكية لكسب أصوات الناخبين، فيقومون بالإدلاء بتصريحات عدائية ضد تركيا إرضاء للرأي العام الأمريكي، وهذا ما ترفضه تركيا بشدة.
وقد اتفق الرئيسان أردوغان وبايدن على آلية للتخفيف من حدة التوتر الناتج عن تلك الحملات السلبية ضد تركيا.
ثامنا: تصريحات أردوغان تجاه إسرائيل بسبب فلسطين
في ضوء سعي أنقرة لزيادة نفوذها وتأثيرها في العالم الإسلامي، تأتي قضية القدس والمسجد الأقصى في مقدمة الرموز التي تعنى بها تركيا، وقد أدى إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 7 ديسمبر/كانون الأول 2017 إلى مواجهة سياسية ودبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا، التي تزعمت احتجاجا إسلاميا في مواجهة قرار نقل السفارة.
وتمثل العلاقات التركية المتوترة مع تل أبيب أحد أهم دوافع القلق الأمريكي من تركيا، خصوصا مع تنامي العلاقات بين حكومة “حزب العدالة والتنمية” وحركة “حماس” الفلسطينية.
وقد ساهم قيام جهاز المخابرات التركي مؤخرا، باعتقال شبكة تجسس تعمل لحساب إسرائيل، في زيادة حالة التوتر بين البلدين.
ولا يخفى على أحد، أن أي توتر استراتيجي لأية دولة في منطقة الشرق الأوسط مع تل أبيب، سيؤدي بالضرورة إلى توتر في علاقاتها مع واشنطن.
** مجالات التعاون بين تركيا والولايات المتحدة
تولي أنقرة أهمية بالغة للتحالف الراسخ متعدد الأبعاد مع الولايات المتحدة، الذي يعود تاريخه إلى أعوام طويلة، وقد نجحت علاقات الشراكة والتحالف بين البلدين في التغلب على جميع أنواع التحديات.
هناك مجال كبير للتعاون مع الولايات المتحدة على نطاق واسع، بدءًا من سوريا مرورًا إلى ليبيا وأوكرانيا، إضافة إلى مكافحة الإرهاب والطاقة والتجارة والاستثمارات.
رغم كورونا، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والولايات المتحدة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري 2021، أربعة مليارات و272 مليون دولار، فيما وصلت الاستثمارات الأمريكية المباشرة في تركيا إلى 13 مليار دولار، وبلغت استثمارات الشركات التركية في الولايات المتحدة 7.2 مليارات دولار. وقد تم تحديد الحجم المستهدف للتجارة مع الولايات المتحدة بمبلغ 100 مليار دولار.
** مستقبل العلاقات التركية الأمريكية
بالتأكيد لا توجد عصا سحرية تنهي الخلافات كليًا بجرة قلم، إنما بالإمكان تحييد المواضيع الخلافية التي تؤدي إلى توتر العلاقات بين البلدين، والتركيز على القواسم المشتركة القائمة على المصالح المشتركة، وبناء آلية لإدارة المواضيع الشائكة.
رغم المشاكل الكبيرة والخطيرة القائمة بين البلدين، فإن تاريخ وواقع العلاقات التركية الأمريكية ومجالات التعاون المشترك تشكل العامل الأساس في استمرار العلاقة بينهما.
ولأن البلدين لا يملكان خيار الطلاق البائن والتخلي عن خدمات بعضهما البعض، فهما مضطران للتركيز على المساحات المشتركة ومجالات التعاون وطرق حل المشاكل العالقة، وبهذا الصدد اتفق رئيسا البلدين في لقائهما الأخير بروما، على هامش “قمة العشرين” على تشكيل لجان مشتركة، تعنى بحل المشاكل وتذليل العقبات، ما يؤكد حقيقة بقاء تركيا حليفا استراتيجيا موثوقا للولايات المتحدة.