انزعاج مصري واضح من مرور تركيا إلى لعب دور اقتصادي فعال في ليبيا مستفيدة من شبكة علاقات كانت بنتها في السنوات الماضية خاصة بعد الانفتاح التركي الأخير على الشرق الليبي الذي كان ملعبا خاصة بالقاهرة وحلفائها المحليين، وما فشلت فيه بالتدخل المباشر قد تحصل عليه بالاقتصاد.
لن تتوقف مناكفات مصر وتركيا في العديد من المناطق، قد تهدأ أو تأخذ أشكالا تنافسية لينة، لكن كل طرف سوف يبحث عن تعظيم مكاسبه بالطريقة التي تحقق أهدافه من دون الدخول في صدام مباشر يصبح مكلفا للجانبين، وتعد ليبيا من أهم الساحات التي انطوت على تجليات مختلفة للتباين، وكادت تؤدي أزمتها إلى صدام بينهما.
تراجعت ملامح الصراع الأمني كثيرا عمّا كانت عليه قبل حدوث حوارات مباشرة بين القاهرة وأنقرة في العاصمتين، وجرى كبح التغول العسكري التركي في ليبيا بموجب تفاعلات محلية وإقليمية ودولية أسهمت في تهدئة مخاوف مصر، حيث تغيرت حسابات تركيا عسكريا في الوقت الراهن، لكنها لم تتغير استراتيجيا.
ما لم تحققه تركيا بالحرب رأت إمكانية أن تحققه بالسياسة والاقتصاد من خلال علاقاتها الوطيدة مع الكثير من القوى الليبية، وامتلاكها الكثير من الأدوات التي تساعدها في تحقيق تقدم في هذين المجالين، وتصويب ما وقعت فيه من أخطاء بسبب تركيزها على الغرب والنأي عن الشرق لأسباب أيديولوجية.
تعرف تركيا أن مقارباتها لا ترتاح لها قوى إقليمية ودولية، لأنها تطمح إلى قضم جزء كبير من كعكة الاستثمار في ليبيا أكبر من تلك التي امتلكتها قبل انهيار نظام العقيد معمر القذافي، وتريد تنويع المجالات التي يمكن أن تحقق لها المكاسب المرجوّة.
يوضح ارتفاع معدل الصادرات التركية إلى ليبيا بنحو 65 في المئة العام الماضي عن عمق الطموح الذي يراود أنقرة، ويؤكد تطوير علاقاتها مع الشرق مؤخرا أنها عازمة على التمدد اقتصاديا في جميع مناطق ليبيا والتخلي عن الوقوف في صف الغرب، وجاءت الزيادة والتمدد عقب تراجع دورها العسكري، أي هناك رغبة في تغيير الآليات المستخدمة أملا في تثبيت أقدامها داخل ليبيا بأدوات ناعمة بدلا من الخشنة.
تزامنت التطورات مع رهانات مصرية كبيرة للفوز بجزء معتبر من المشاركة في مشروعات الإعمار والحصول على نسبة كبيرة في العمليات الخاصة بالبنية التحتية، وزيادة نسبة العمالة المصرية في ليبيا، وهو ما ظهرت معالمه في الاتفاقيات التي وقّعتها حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة مع القاهرة في الفترة الماضية.
يبدو تركيز مصر وتركيا في المجال الاقتصادي هدفه النأي عن الصدام المباشر، حيث يحاول كل جانب الاستثمار في المكونات التي تمثل مزايا نسبية وله باع طويل فيها، وكأن هناك اتفاقا ضمنيا بعدم العودة إلى منطقة المناورات السابقة، وهو توازن تريده القاهرة وأنقرة أيضا لتجنب تحول ليبيا إلى ساحة لصراع مكلف للطرفين.
أفضت حصيلة المناقشات التي جرت على المستويين السياسي والأمني بين البلدين إلى تسكين الملفات المتعلقة بهما في ليبيا وأماكن أخرى، وعدم الممانعة للبناء في المستوى الاقتصادي المريح لهما، والذي لا تحمل تفاصيله تعارضا كبيرا، وهو ما أشار إليه استئناف الحوارات المشتركة بين رجال أعمال في كل من القاهرة وأنقرة.
تؤكد هذه التجربة أن المسار الاقتصادي يسير في طريق مستقل عن المسارات الأخرى، السياسية والعسكرية، بدليل أن جميع التوترات التي حدثت بين مصر وتركيا بسبب ليبيا أو غيرها لم تؤثر كثيرا على علاقاتهما الاقتصادية التي ظلت صامدة.
وحافظ التبادل التجاري على درجة عالية من الاستقرار، على الرغم من احتدام الصراع بينهما بسبب الأزمة الليبية، وغاز شرق البحر المتوسط، ودعم أنقرة لجماعة الإخوان والمتطرفين عموما، وقد ابتعدت غالبية القضايا الاقتصادية عمّا جرى من خلافات أوشكت على الصعود بهما إلى الهاوية.
لم تكن أزمة مصر مع تركيا في ليبيا على علاقة كبيرة بالاتفاقيات الاقتصادية والبحرية التي وقّعتها مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، لأن أنقرة لم تعتد على مصالح القاهرة الاقتصادية، بل على العكس منحها تقسيم الحدود البحرية بين تركيا والحكومة الليبية نحو 35 ألف كيلومتر مربع من المياه الإقليمية.
مع ذلك اعترضت مصر على هذا التقسيم لأسباب سياسية تخص تقديراتها الإقليمية، ولمخالفته لبعض القوانين الدولية، كما أن القبول به يضع القاهرة في مواجهة مع اليونان شريكتها الرئيسية في شرق المتوسط ويعيد ترتيب الأوراق بما يصبّ في صالح أنقرة الراغبة في أن تكون رقما محوريا في شرق المتوسط.
ينطوي هذا الموقف على دلالة مهمة تتعلق بعدم رغبة تركيا في تعكير الأجواء الاقتصادية مع مصر والحفاظ على الحد الأدنى الذي يمنع حدوث مواجهة محتدمة، ما يعني أن تحركاتها في ليبيا في هذا المجال لن تؤدي إلى تقاطعات سلبية مع مصر.
تتجاوز أهداف أنقرة حدود الحصول على حفنة من المشروعات التنموية، وترتفع بها إلى تكوين حزمة من الروابط الاستراتيجية مع أيّ نظام سيحكم في ليبيا مستقبلا، بما يجعل لتركيا يدا طولى في مفاصل الاقتصاد وفي النطاق الذي يتواءم مع إمكانياتها.
تبتعد أنقرة عن المنافسة في مجالي النفط والغاز في الأراضي الليبية لتتجنب زيادة خلافاتها مع بعض القوى الكبرى التي لها تاريخ طويل هناك وتتحكم شركاتها العملاقة في مفاتيح النفط والغاز منذ عقود، وتتحرك في نطاق الهامش الذي يخدم أهدافها بأقل قدر من المنغصات الدولية، بما يسهم في تحسين وضعها الاقتصادي داخليا وخارجيا ويرفع من معدل صادراتها كلما انحاز معدل التبادل التجاري لصالحها.
مهما كانت المسافات التي تحاول تركيا ومصر الاحتفاظ بها في المجال الاقتصادي، فإنها يمكن أن تحمل على المدى البعيد مكونات أمنية، فالنجاح الذي يتحقق تدريجيا لأنقرة في شرق ليبيا على مستوى الاستثمار يحتاج إلى أدوات سياسية، وهو ما قامت به خلال الفترة الماضية، حيث دأب السفير التركي في طرابلس كنعان يلماز على زيارة أماكن حيوية في الشرق، واستقبلت أنقرة وفودا من هذه المنطقة تتشكل من أعضاء في البرلمان وسياسيين، الأمر الذي يأتي على حساب نفوذ مصر في شرق ليبيا.
تركيا تعرف أن مقارباتها لا ترتاح لها قوى إقليمية ودولية، لأنها تطمح إلى قضم جزء كبير من كعكة الاستثمار في ليبيا أكبر من تلك التي امتلكتها قبل انهيار نظام العقيد معمر القذافي
يشير تمدد تركيا الاقتصادي في الوصول إلى شرق ليبيا، بعد غربها، وتدفق صادراتها إلى أنها عازمة على تكريس وجودها على مقربة من الحدود الغربية لمصر، ومع تنوع أشكال التجارة والاستثمار وخضوعهما لحسابات العرض والطلب قد تتفوق أنقرة بما يؤثر على مشاركات مصر في مشروعات إعادة الإعمار وتزويد ليبيا بالعمالة.
فهناك شركات تركية يمكن أن تظهر وتبدي استعدادا للمنافسة في مثل هذه المجالات التي تقوم مصر بالتركيز عليها حاليا، وفي ظل حدوث تحولات في الخارطة السياسية تضاعف أنقرة من استثماراتها وقد تفرض على القاهرة تحديات من نوع مختلف وتهدد تجارتها التي تتدفق على شرق ليبيا برّا منذ سنوات ولم تتوقف مع احتدام أزمتها.
تؤكد هذه المعطيات أن تركيا تخطط للوصول إلى اللحظة التي يصبح فيها دورها الاقتصادي كبيرا ويتحول إلى مقدمة لتعزيز دورها السياسي والأمني في المستقبل، الأمر الذي تنتبه له القاهرة، فما يحدث في ليبيا يؤثر بقوة على الأمن القومي المصري.
المصدر العرب